قبل يومين فقط، اهتزت ساحة إحدى جامعاتنا على وقع مشاجرة طلابية عنيفة، تحولت من حوار إلى صراخ، ثم إلى تبادل للضرب، ليس فقط بالأيدي بل وبعض الأدوات والحجاره .
لم تكن مجرد مشهد عابر، بل كانت صرخة مدوية تعيد إلى الأذهان سلسلة من الحوادث المتكررة التي تكشف عن ورم خبيث ينخر في جسد مجتمعنا المفترض أنه "النخبة" و"مستقبل الأمة". هذه الحادثة ليست منعزلة، بل هي عارض لمرض أعمق يحتاج إلى تشخيص دقيق وعلاج جذري.
المشاجرة الأخيرة، ككثير من نظيراتها، بدأت من شرارة صغيرة. خلاف على مقعد، أو تعليق على منشور عبر "الواتساب"، أو نزاع على دور، أو حتى اختلاف في الرأي السياسي أو الفكري. لكن هذه الشرارة وجدت وقوداً جاهزاً للاشتعال. تحولت الساحة الجامعية، التي من المفترض أن تكون فضاءً للتلاقي الفكري وتبادل المعرفة، إلى حلبة للمواجهة البدنية، حيث يحل العنف محل لغة الحوار، والكراهية تزيح العقل.
لا يمكن فهم هذه الظاهرة بعين واحدة، بل هي محصلة لعدة عوامل متشابكة وهي ان الجامعة ليست جزيرة معزولة؛ فهي مرآة تعكس ما يعتمل في المجتمع.
وان كثير من الطلاب اليوم يعانون من ضغوط نفسية هائلة: ضغوط الدراسة، البطالة المستقبلية، الأزمات الاقتصادية، وانهيار بعض الأنماط القيمية. هذا يخلق حالة من القلق والإحباط والغضب المكبوت، الذي يجد في أبسط موقف منفذاً للانفجار. إضافة إلى ذلك، يلاحظ تراجع الدور التربوي للأسرة في تعليم أبنائها مهارات إدارة الغضب وحل النزاعات سلمياً
ان تراجع الدور الأكاديمي
في بعض الأحيان،وافتقار الإدارة الجامعية إلى الآليات الفعالة للإنصات لمشاكل الطلاب واحتوائهم. يتحول دور الأستاذ من مرشد ومفكر إلى مجرد ملقن للمعلومات. كما أن غياب الأنشطة اللامنهجية (الرياضية، الفنية، الثقافية) التي تستنفذ طاقات الشباب بشكل إيجابي، يترك مجالاً للطاقات السلبية أن تتفجر ان التقنية والعالم الافتراضي تضخيم الصراع.
كثيراً ما تبدأ المشاجرات في العالم الافتراضي. منشور مسيء، تعليق أو مجموعة "شات" تتحول إلى ساحة للشتائم. سرعة واتساع انتشار المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي يضخم المشكلة، ويحول الخلاف الشخصي إلى قضية بين مجموعات، مما يجعل التراجع عنه أصعب .
لا يزال الانتماء العائلي أو القبلي أو المناطقي في بعض المجتمعات أقوى من الانتماء الوطني أو الانتماء لهوية "الطالب الجامعي". هذا يؤدي إلى تحويل أي نزاع فردي إلى صراع جماعي، حيث يتدخل الأقارب والأصدقاء لدعم "طرفهم" بغض النظر عن الحقائق، مما يوسع رقعة العنف .
ان الحد من هذه الظاهرة يحتاج إلى جهد متكامل من الجامعة والأهالي
والانتقال من دور المراقب إلى دور المرشد وتفعيل دور اتحاد الطلاب في حل المنازعات وتدخل العقلاء لاحتواء النزاع قبل تفاقمه والابتعاد عن الموازره الغير مدروسة من الجميع ودون محاباة هو رادع أساسي.
وهنا أشير بانه على الأسرة أن تتحمل مسؤوليتها في مراقبة سلوك أبنائها وإرشاده لأنه الطالب هو الجزء الأكبر من الحل وعليه أن يدرك أنه حامل لرسالة العلم، وأن العنف يناقض جوهر هذه الرسالة. عليه أن يطور من أدواته في الحوار، وأن يتعلم كيف يختلف مع الآخر دون أن يلغيه أو يعاديه. وان قوته الحقيقية في عقله وأخلاقه، ليس في قبضته لأن من يفقد أمن جامعاته، يكون على شفا خسارة مستقبله.