لم تعد ظاهرة العنف الجامعي مجرّد مشاجرات عابرة أو حالات فردية كما كانت تُوصف في السابق، بل أصبحت مؤشّراً مقلقاً على خللٍ اجتماعي وثقافي يتنامى في بعض جامعاتنا، حتى كاد يُشكّل تهديداً حقيقياً لرسالة التعليم الجامعي، ولأمن المجتمع في آنٍ واحد.
العنف الجامعي هو كل سلوك عدواني أو تهديدي يقع داخل الحرم الجامعي، سواء أكان لفظياً أم جسدياً أم حتى رمزياً، ويؤدي إلى الإضرار بالآخرين أو بالممتلكات العامة. وتشير إحصاءات وزارة التعليم العالي الأردنية إلى أن معظم حالات العنف الجامعي تنبع من خلافات ذات طابع عشائري أو مناطقي أو سياسي، الأمر الذي يفرغ التعليم من جوهره القيمي والمعرفي، ويحوله إلى ساحة استعراض للنفوذ والقوة.
لقد كشفت دراسة حديثة صادرة عن جامعة مؤتة عام 2023 أن أكثر من 60% من الطلبة الذين شاركوا في استبيانات حول الظاهرة أقرّوا بأن الانتماءات الفرعية وضعف الإحساس بالانتماء الوطني هما العاملان الأكثر تأثيراً في انتشار هذه السلوكيات. ويؤكد التقرير ذاته أن غياب الأنشطة الطلابية الهادفة وقلّة المساحات الآمنة للحوار يزيدان من فرص الاحتكاك والنزاع داخل الجامعات.
إنّ ما يحدث داخل بعض الجامعات ليس مجرد تجاوز سلوكي، بل هو انعكاس مباشر لأزمة قيمية وتربوية أعمق. فحين يفقد الطالب ثقافة الحوار، ويتربّى على مبدأ "الغلبة” لا "الإقناع”، يصبح اللجوء إلى العنف وسيلة لحل الخلاف، لا آخر الخيارات كما يفترض.
الآثار المترتبة على هذه الظاهرة لا تقف عند حدود الحرم الجامعي، بل تمتد إلى المجتمع بأسره. فالعنف الجامعي يُضعف الثقة بالمؤسسات التعليمية، ويزرع الخوف في نفوس الطلبة، ويشوّه صورة الجامعات الأردنية التي طالما كانت منارات علمٍ ومدنية في المنطقة. كما أنه يُهدر الطاقات، ويقوّض الجهود الوطنية الرامية إلى بناء جيل واعٍ قادر على المساهمة في تنمية الوطن.
ولمواجهة هذه الظاهرة، لا بد من مقاربة شمولية تبدأ من إعادة بناء منظومة القيم في البيت والمدرسة، وتمر عبر تفعيل دور الجامعات في التربية الوطنية، وتنتهي بتطبيق صارم للأنظمة والتعليمات الجامعية بعدالة وشفافية. كما يجب أن تتعزز ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر عبر برامج عملية وأنشطة طلابية مستمرة، لأن الأمن الجامعي لا يتحقق بالمراقبة الأمنية فقط، بل بالتربية الواعية والعقل المنفتح.
إن العنف الجامعي ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة لثقافة يمكن تغييرها. ومتى ما اجتمعت إرادة الدولة مع وعي المجتمع، وعادت الجامعة إلى دورها الحقيقي كمصنع للعقول لا مسرحٍ للصراعات، حينها فقط سنحمي أبناءنا ومستقبلنا من هذا الخطر الصامت الذي يهدد التعليم قبل أن يهدد الأمن.