تأتي زيارة جلالة الملك لغرفة صناعة الأردن في توقيت لا يمكن اعتباره حدثًا عابرًا أو جولة بروتوكولية، بل خطوة تحمل معاني سياسية واقتصادية عميقة، وتفتح نافذة لاستشراف شكل العلاقة الجديدة بين الدولة والقطاع الإنتاجي. فالاقتصاد الأردني يعيش مرحلة دقيقة تتسم بضغط مالي، وتحديات تشغيلية، وارتفاع في البطالة، وحاجة ملحّة لإعادة تعريف دور الصناعة في النمو، وليس باعتبارها قطاعًا تقليديًا، بل محركًا للتصدير والتوظيف والتنافسية.
فالزيارة في جوهرها ليست إلا إشارة واضحة إلى أن الدولة بدأت ترى في الصناعة شريكًا استراتيجيًا لا مجرد مصدر ضرائب أو وظائف. الصناعة هنا ليست مباني أو خطوط إنتاج، بل قدرة وطنية على إنتاج القيمة، وتعزيز ميزان المدفوعات، وخلق فرص عمل ذات أثر طويل. وحين يختار الملك أن يذهب إلى غرفة الصناعة، فهو يرسل رسالة بأن مركز القرار لم يعد محصورًا في الوزارات، بل يمتد إلى الشركاء الحقيقيين في الميدان، حيث تتحول المعامل والمصانع إلى منصات للابتكار، والريادة الصناعية، ونمو الصادرات.
أما توقيت الزيارة فله دلالة مضاعفة. فالعالم يدخل مرحلة إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بعد الجائحة، وتتحرك دول كثيرة نحو استعادة صناعاتها أو تأمين منتجاتها استراتيجيًا، بينما ما يزال الأردن يعتمد على الواردات في قطاعات رئيسية. ومن هنا، فإن الصناعة الوطنية ليست مجرد خيار اقتصادي، بل سند سيادي يقلل الكلف، ويرفع القدرة التشغيلية، ويخلق استقرارًا اقتصاديًا طويل المدى. فالزيارة تقول ضمنًا إن الصناعة يمكن أن تكون جزءًا من أمن الدولة الاقتصادي، وأنها تمتلك قدرة على امتصاص الصدمات، إذا ما حصلت على الدعم الفني والتشريعي والتمويلي المناسب.
ولعل الرسالة الأبرز في الزيارة تتعلق بالعلاقة الجديدة بين التعليم والصناعة. فالأردن يخرج آلاف الخريجين سنويًا، لكن هذا الخزان البشري لا يلتقي دائمًا مع احتياجات المصنع أو متطلبات خطوط الإنتاج. وهنا يمكن قراءة الزيارة كدعوة لربط التعليم المهني والتقني بالقطاع الصناعي، وتحويل الجامعات ومراكز التدريب إلى منصات لإنتاج الكفاءات لا لمنح الشهادات فقط. فالمصنع الذي يملك التدريب يحتاج سنوات أقل للوصول إلى الجاهزية التشغيلية، ويقلل نسب البطالة، ويخلق وظائف ذات قابلية للنمو.
كما وتفتح الزيارة بابًا أوسع لتشريعات جديدة تخفف الكلفة على المستثمر الصناعي، وتعزز الصادرات، وتقدم مسارات تمويل مستدامة. فالصناعة لا تكبر فقط بقرارات نوايا، بل بسياسات جمركية مرنة، وحوافز للابتكار، وتجمعات صناعية متخصصة تستقطب الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتتيح لها دخول أسواق جديدة دون أعباء بيروقراطية. وهذا يعني أن العلاقة بين الحكومة والصناعة يجب أن تتحول من علاقة رقابة إلى علاقة تصميم، بحيث يكون القطاع الخاص شريكًا في بناء التشريع لا متلقيًا له فقط.
ويمكن النظر إلى الزيارة باعتبارها اختبارًا عمليًا للحكومة ومؤسساتها؛ كيف سيتحرك مجلس الوزراء والمؤسسات الاقتصادية لتحويل الرسائل الملكية إلى خطط قابلة للتنفيذ؟ وهل ستتحول الغرفة إلى منصة تفكير صناعي تقدّم توصيات، وتفتح أسواقًا، وتبني تحالفات مع الجامعات ومراكز البحث، وتضع خريطة طريق للصناعات القابلة للنمو والصادرات ذات القيمة؟ أم سنكتفي بمشهد اللقاء دون هندسة السياسات لما بعده؟
إن الأردن يمتلك فرصًا صناعية يمكن البناء عليها كالصناعات الدوائية، والهندسية، والغذائية، والبلاستيكية، والمعدنية. ومع وجود مناطق صناعية جيدة البنية، وتاريخ من الانفتاح التجاري، يمكن للبلاد أن تستعيد بوصلتها الصناعية إذا ما توحدت الرؤى بين الحكومة والغرف والمؤسسات المالية. فالزيارة تأتي لتعزيز ثقافة الشراكة، وتخفيف الفجوة بين القرار والتنفيذ، وتحويل الصناعة إلى محرك نمو لا إلى قطاع ينتظر الدعم.
بهذا المعنى، فإن زيارة الملك لغرفة الصناعة ليست حدثًا إعلاميًا، بل بداية مرحلة اقتصادية تتطلب أن يصبح القطاع الإنتاجي شريكًا كاملًا في تصور المستقبل. فالدول التي تنجح هي تلك التي تكتشف أن الصناعة ليست مجرد قطاع، بل أسلوب تفكير، وقدرة على تحويل الإنسان والآلة والمعرفة إلى قيمة، وإلى وظيفة، وإلى سوق تصدير، وإلى اقتصاد أقل هشاشة وأكثر سيادة.