صلاح في أزمة.. السقا تحت النار.. والإنسانية تُسأل!
إنه وفي لحظة تجسد صراع القيم في عصرنا الرقمي المتشابك، تطل علينا أزمة محمد صلاح مع ليفربول لتفجر أسئلة أكبر من مجرد خلاف رياضي. بينما ينزف قلب جماهير الريدز لأسطورتهم المُهمَشة، وينفجر النجم العالمي بغضب المظلومية، تطالعنا مفارقة لافتة: الفنان أحمد السقا يتعرض لعاصفة سخرية وغضب لأنّه تجرأ على التضامن مع صلاح! المشهد ليس غريباً في ذاته، لكنّ سياقه مأساوي. ففي وقت كانت فيه الإنسانية تُذبح يومياً في غزة، وكنّا ننتظر صوتاً فنياً مؤثراً يصرخ بالضمير العالمي، نجد هذا الصوت ينفجر دفاعاً عن نجم كرة قدم في أزمة عابرة. البيان التالي ليس مجرد تحليل للأحداث، بل هو إضاءة على شرخ أخلاقي، ونداء لإنسانية لا تعرف الانتقائية، وقراءة في غضب جماهيري لم يعد يحتمل الصمت عن الجرائم الكبرى بينما تُثار المعارك على القضايا الثانوية.
عصر صلاح الذهبي: إمبراطور الأنفيلد الذي أعاد المجد
لا يمكن فهم حجم الصدمة الجماهيرية الحالية دون استحضار سفر الإنجازات الأسطوري الذي خطّه محمد صلاح بقلم من ذهب على صفحات تاريخ ليفربول. منذ قدومه في 2017، لم يكن مجرد لاعب عابر، بل كان حجر الزاوية في عصر كلوب الذهبي. قاد الفريق لاستعادة المجد الأوروبي بدوري الأبطال 2019، ثم أنهى ألم انتظار الثلاثين عاماً للقب الدوري الإنجليزي 2020، ليمنح جماهير "الأنفيلد" أحلامها التي طال انتظارها. مع 9 ألقاب كبرى، و4 جوائز للحذاء الذهبي، وتخطيه حاجز الـ250 هدفاً، أصبح صلاح هوية وفخراً ورمزاً يتجاوز كرة القدم. هو اللاعب الذي حوّل الأحلام إلى واقع ملموس، وجعل من اسم ليفربول يهتزّ لهول المنافسين مرة أخرى. هذه المكانة الأسطورية هي التي تجعل أيّ تعامل يقلل من قيمته بمثابة طعنة في قلب كلّ من آمن به وشهد معه لحظات المجد.
الشرخ الكبير: أزمة التقدير بين الأسطورة وسلطة المدرب
الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف تكتيكي، بل هي صدام بين هيبة تاريخية وسلطة جديدة. قرار المدرب سلوت إبقاء صلاح على الدكة لثلاث مباريات متتالية كان الشرارة. لكن الوقود كان شعور صلاح بالاستهانة والتهميش المتعمد من قبل من يفترض أنهم يحمون إرثه. تصريحاته اللاحقة التي كشفت عن "وعود لم تُفَ" و"من لا يريده في النادي" لم تكن سوى صرخة إنسان يشعر بأنّه يُرمى "تحت الحافلة" بعد أن قدّم كل شيء. الجانب الآخر يرى في هذه التصريحات محاولة لتقويض سلطة المدرب و"تدمير استقرار الفريق". في قلب هذه العاصفة، يقف جمهور ليفربول المنقسم بين الولاء للرمز التاريخي واحترام الهيكل الجديد، بينما تلوح في الأفق فرصة الرحيل إلى الدوري السعودي كحلّ وحيد لكسر هذا الجمود المؤلم.
تضامن ينقلب إلى محرقة: لماذا هاجم الجمهور أحمد السقا؟
هنا تكمن النقطة الأكثر إثارة للتفكير في هذه الأزمة المركبة. عندما نشر الفنان أحمد السقا فيديو تضامنياً مؤثراً مع صلاح، مُذكّراً إيّاه بإنجازاته وداعياً له بالثبات، لم يكن يتوقع العاصفة النارية التي ستجتاحه. الهجوم لم يكن على مضمون الرسالة الإنسانية، بل على سياقها التاريخي والأخلاقي. الجمهور الذي شاهد صمتاً مطبقاً من العديد من النجوم والفنانين، بمن فيهم السقا، أثناء مجازر غزة والإبادة الجماعية، استقبل هذا التضامن الانتقائي بغضب عارم. السؤال الذي طُرح بقسوة: أين هذا الصوت عندما كان الأطفال يُدفنون تحت الركام؟ أين هذه العبارات المؤثرة عندما كانت الإنسانية تُذبح كل يوم؟ كان الهجوم تعبيراً عن خيبة أمل عميقة في نخبة فنية يبدو أنها تختار قضاياها بحسابات الربح والخسارة، فتتضامن بحرارة مع أزمة نجم عالمي "آمنة"، بينما تتوارى عن القضايا المصيرية الأكثر إلحاحاً وخطورة.
صرخة السقا الجريح: لو مش عايزيني.. ارموني في الزبالة
ردّ الفعل من أحمد السقا كان صادماً في صدقه وألمه. في حواره مع عمرو أديب، انفجر الفنان المعروف بصلابته: "أنا مش مختل عشان أخاطب مجلس إدارة ليفربول!". عبارته الأكثر وجعاً، "لو مش عايزيني ارموني في الزبالة"، كشفت عن جرح عميق في هوية الفنان الذي شعر بأن قيمته تُداس بسبب موقف إنساني. صدمته من اختفاء الفيديو دون سبب، وتلقي الإهانات التي تصلح لأن تكون قضايا قانونية، دفعت به إلى الانسحاب من منصاته. لكنّ جوهر رسالته بقي: كيف يُهاجم شخص لأنّه دعم إنساناً يشعر بالظلم؟ صرختُه كانت دفاعاً عن الحق في التضامن الإنساني المجرد، لكنها أيضاً كشفت عن الفجوة الهائلة بين توقعات الجمهور المشحونة بألم قضايا كبرى، وبين فهم النخبة الفنية لدورها الاجتماعي.
الإنسانية التي لا تتجزأ: الرسالة الأعمق من وراء العاصفة
هذه الحلقة الدرامية تضعنا أمام مرآة أخلاقية قاسية. رسالة نبيل أبو الياسين تلخّص الجوهر: "الإنسانية لا تتجزأ". التضامن مع صلاح حق وواجب، لكنه يصبح شكلياً وناقصاً عندما ينفصل عن سياقه الأخلاقي الأوسع. غضب الجمهور من السقا لم يكن كرهاً له، بل كان تعبيراً عن ظمأ أخلاقي لصوت يُرفع ضد الظلم يكون، وخاصة حين يصل الظلم إلى حد الإبادة. الأزمة علّمتنا أن الجمهور العربي لم يعد سلبياً، فهو يراقب، يحاسب، ويرفض الازدواجية. يصّفق عندما يرى الموقف الإنساني الصادق، وينتقم بالكلمات عندما يرى الانتقائية والاختباء وراء "الآمن". في زمن الأزمات المصيرية، لم تعد الشعبية مجرد أرقام متابعة، بل أصبحت مسؤولية أخلاقية تتطلب شجاعة المواقف لا انتقاءها.
دروس العاصفة ومستقبل الضمير العام
ما حدث بين صلاح وليفربول والسقا والجمهور هو أكثر من خبر عابر؛ إنه فصل من فصول تشكّل الوعي الجماعي العربي في زمن مضطرب. لقد كشفت العاصفة أن جمهورنا لم يعد يقبل أن تُسرق منه إنسانيته، فلا يُسمح له بالتضامن مع غزة بينما يُطلب منه التفاهُم مع أزمة نجم كرة قدم. علمتنا أن النجومية الحقيقية لم تعد في عدد البطولات أو متابعي إنستجرام، بل في القدرة على حمل همّ الإنسان أينما كان. محمد صلاح يمرّ بأزمة كروية قد تنتهي برحيل أو مصالحة، لكن أزمته كشفت عن الحب الأسطوري الذي يحمله الملايين له. أحمد السقا تلقى درساً قاسياً في أن الجمهور يملك ذاكرة أطول من "ترند" الساعة، وأن القضايا الكبرى تُقاس بمعايير مختلفة. والجمهور نفسه أثبت أنه القوة الرقابية الأخلاقية الأقوى، الرافضة للصمت على المظالم الكبرى بينما تُثار المعارك على الصغائر. الختام هنا ليس نهاية قصة، بل بداية سؤال أكبر: هل سنتعلم أن الإنسانية كالعدالة، يجب أن تكون عمياء لا تختار من تنصفه، أم سنستمر في انتقاء تضامناتنا حسب اتجاه الريح؟ الأجوبة ستحدد ليس مصير نجوم، بل قيمة ضمير أمة.