بقلم العميد الركن المتقاعد الدكتور نايل حسن العجارمه - أبو ظبي
الذي لا ندركهُ بعدُ ان هذا الڤيروس لم يعد مجرد وباءٍ طبيعي.. وانما ظاهرة انسانية يتشكل في كنفها تقليدٌ بشريّ مختلفٌ تماماً، وثقافاتٌ جديدة، ونُظُم من العلاقات المستحدثة ، وهذا يدفعنا الى فتح آفاقٍ جديدة للتفكير لم تكن معهودة فيما مضى .. او ربما كنّا قد فكرنا فيها باسلوبٍ مضلل، وقاربناها بطريقةٍ خاطئة.. فما يفعله كورونا بنا هذه الايام هو انه يدفعنا الى إعادة انتاج وجودنا البشري وفقاً لشروط جديدة سواء ً على المستوى العملي او الاخلاقي او القِيَمي او الفكري الخالص.. وبالتالي فهو يعمدُ الى إستجلاء حقائق الاشياء وطبائعها وعلاقتها بهذا الوجود الانساني.
كورونا هو ارادة الله في الارض.. وكيف لإرادة الله ان تكون؟
1. من كان يتخيل ان تضع دول العالم خلافاتها السياسية المزمنة جانباً وتنهمك في التعاون والتنسيق للحيلولة دون تفشي هذا الوباء وانتشاره.. ويصبح التضامن الدولي حقاً وواجباً.. وبذلك تتغير الاولويات بتغيّر المصالح.
2. ومن كان يتصور ان تخلو نشرات الاخبار من الحديث عن الارهاب والجماعات الارهابية؟ فلا داعش العراق ولا داعش سوريا.. وهم اليوم حبيسو كهوفهم.. لا اخبار عنهم ولا متحدث يهتم بهم .. ولا وكالات انباء تطاردهم.. فلا تزويد لهم ولا وجوهٌ خائنة تصل اليهم.
3. ومن كان يتخيل ان تخلو نشرات الاخبار من الحديث عن حروب سوريا والعراق وليبيا واليمن؟ اين ذهبت الجموع والجيوش والعدة والعتاد والطائرات والقاذفات والمدافع والبراميل المتفجرة. اين العدو القابع على التخوم.. ام ان عدونا الجديد لا يعترف بالجهات الاربع.. فقد ياتيك من فوقك او من دونك او عن يمينك او يسارك.. وربما كان عدوك الذي سيقتلك او اقرب الناس اليك.
4. من كان يتوقع ان يحلّ السلام في افغانستان بين عدوّين لدودين بعد ثمانية عشر عاماً من الصراع المرير؟ ومن كان يتوقع ان يجتمع النقيضان على طاولة الصلح.. اعتى قوة في العالم امريكا.. وأوهن قوة في العالم طالبان.. ثم تبدأ امريكا وحلفائها بالانسحاب بعد هذا العمر الطويل.
5. من كان يتصوّر ان تخلو اكثر مدن العالم ازدحاماً وصخباً من ساكنيها وروادها.. وتصبح مجرد مشاهد شبحيّة .. فلا شوارع مزدحمة.. ولا مطاعم على الطرقات ولا مسارح ودور ازياء ولا مراقص ولا دور سينما.
6. من قال ان تتوقف المستديرة الساحرة.. فلا ملاعب صاخبة ولا جماهير ولا ازدحامات ولا امواج مكسيكية ولا ميسي ولا كريستيانو رونالدو ولا برشلونة ولا ريال مدريد ولا فيصلي ولا وحداتي.
7. من قال ان تتصدر الولايات المتحدة الامريكية العالم في عدد اصابات كورونا (82.391) وهي ام الطب والاطباء، ومن قال ان تصل دول مثل ايطاليا والمانيا وبريطانيا وفرنسا الى هذا الحد من الفوضى والتخبط للدرجة التي قد يتهدد فيها الاتحاد الاوروبي وجودياً، في حين تتفوق دولٌ فقرة وبسيطة في اجراءاتها للحد من انتشار هذا الوباء.
8. من قال يوماً ان تخلو نشراتنا الاخبارية من الحديث عن حوادث السير وحرب الشوارع والاختناقات المرورية وساعات الذروة والكاميرات ومخالفات السير والباص السريع وأوووبر وكريم.. وتصبح مشاهدة سيارة تتحرك في شارع الجامعة الاردنية امراً مستهجناً.
9. من قال اننا سنفقد الحديث عن المخدرات ومروجيها ومتعاطيها وحملات الاعتقال وبرامج التوعية .
10. من كان يتخيل اننا لم نعُد نسمع دويّ اطلاق العيارات النارية في الافراح والمناسبات.. ولم نعد نشاهد مواكب الاعراس وهي تخترق الشوارع بعشوائية وبطء.. والتشحيط والتفحيط.. وأصوات مطربي النشاز الموسيقي وهم يصمّون آذاننا حتى ما بعد منتصف الليل.
11. من قال ان تخلو نشراتنا الاخبارية من اخبار متكررة ومقززة عن نشاطات اللجان النيابية.. والوجوه المتعطشة للظهور امام كميرات التلفزة.. ومن قال اننا سنفقد بصورة مفاجئة جلسات التصويت المقيت والمناقشات الصورية لمشاريع القوانين والعنتريات والاستعراضات والهوشات والردح وتبادل اللكمات... والكذب بجميع اشكاله.
12. واخيراً.. من سيقول ان الحياة ستعود الى سابق عهدها بعد كورونا.. ام اننا امام واقع جديد قد لا يتسنى له ان يتغيّر.