تعيش الدول ظروفا متنوعة تتصف غالبا بالاعتياد، ولكن قد تمر أي دولة بمراحل استثنائية، تؤثر على مختلف جوانب الحياة فيها سواء من الناحية الداخلية أو تنعكس أيضا على مكانتها في المحيط الدولي. وقدّر المشرعان الدولي والوطني هذه الاحتمالية، فشرعا مجموعة من القواعد القانونية لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية واستيعاب الآثار الناتجة عنها، مما يؤثر بشكل عام على المنظومة التشريعية بالدولة، وبما يؤدي إلى تقييد ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم. وتقبّل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هذه الفكرة عندما أجاز للدول الأطراف في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تهدد حياة الأمة أن تتخذ في أضيق الحدود التي يتطلّبها الوضع تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد.
واستجابة لذلك، نظّمت المادة 124 من الدستور حالات اصدار قانون الدفاع وأطّرت ذلك ببعض القيود الدستورية التي تكفل عدم التوسع بتطبيقه حفاظا على حقوق المواطنين وحرياتهم. وكرّس قانون الدفاع رقم 13 لسنة 1992 هذا التأطير الدستوري بأحكامه التي حددت حالات العمل به وكيفية إعماله، وأحاط تطبيقه بالضمانات القضائية التي ترسّخ وجوب التطبيق القانوني السليم لأحكامه.
ونظرا لإعلان العمل بقانون الدفاع بهدف مواجهة انتشار وباء كورونا على المستوى الوطني وحماية السلامة العامة في جميع أنحاء المملكة، تدعو الطبيعة الخاصة لهذا الهدف الدفاعي الصحي إلى تكريس مبدأ «أنسنة قانون الدفاع والأوامر الصادرة بمقتضاه»، حيث يمكن استشعار مكونات هذا المبدأ في الآتي:
أولا: تكريس مبدأ الأنسنة في الضمانات الملكية لتطبيق قانون الدفاع.
حددت الإرادة الملكية التي صدرت بالموافقة على إعلان العمل بقانون الدفاع حالة العمل بهذا القانون وهي مجابهة انتشار وباء كورونا على المستوى الوطني و حماية السلامة العامة في جميع انحاء المملكة. ويعتبر هذا المحدد بمثابة ضمانة ملكية يتوجب على رئيس الوزراء الالتزام بها أثناء ممارسة صلاحياته لمواجهة الحالة التي حددتها الإرادة الملكية السامية فقط.
كما أن الرسالة التي وجهها جلالة الملك لرئيس الوزراء بتاريخ 17/3/2020 بمناسبة إعلان العمل بقانون الدفاع، المتضمنة توجيه الحكومة بأن يكون تطبيق قانون الدفاع والأوامر الصادرة بمقتضاه في أضيق نطاق ممكن، وبما لا يمس حقوق الأردنيين السياسية والمدنية ويحافظ عليها، ويحمي الحريات العامة والحق في التعبير التي كفلها الدستور وفي إطار القوانين العادية النافذة. مع تأكيد جلالته أن الهدف من تفعيل هذا القانون الاستثنائي، هو توفير أداة ووسيلة إضافية لحماية الصحة العامة والحفاظ على صحة وسلامة المواطنين. تعتبر هذه الرسالة بما ورد بصلبها من ضمانات توجيها للحكومة، وتكوّن اطارا فكريا وتوجيهيا لرئيس الوزراء بممارسة صلاحياته بموجب قانون الدفاع.
تعزّز هذه الضمانات الملكية مبدأ الانسنة في تطبيق قانون الدفاع، إذ أنها تلزم رئيس الوزراء أن يتقيد بأطر محددة تكفل الحفاظ على حقوق الانسان وتوجهه إلى تطبيق القانون بأضيق نطاق ممكن دون المسّ بحقوق المواطنين وحرياتهم، وبشكل يعمّق الهدف من تفعيل هذا القانون بحماية الصحة العامة والحفاظ على صحة المواطنين وسلامتهم.
وبذلك تتأصل الفلسفة الفكرية الملكية بتطويع تطبيق قانون الدفاع وفق محددات انسانية، يكون الهدف من ذلك التطبيق هو الانسان ذاته وحماية حياته وصحته العامة كونها جوهر القضية الانسانية. لذلك نجد أن مختلف أوامر الدفاع التي صدرت من رئيس الوزراء، بالرغم مما يغزرها أحيانا من ملاحظات قانونية، جاءت بصفة غالبة بسياق انساني يعمل على تحقيق التوازن من ضرورة اتخاذ إجراءات لتحقيق الهدف من تفعيل القانون ولكن بما يكفل المحافظة على الكرامة الانسانية والحق بالعيش الكريم. ويتفعّل هذا السياق الانساني بشكل يومي لدى مختلف الإدارات العسكرية أو المدنية التي تعمل على تنفيذ القانون.
ثانيا: تكريس مبدأ الأنسنة بمعالجة الآثار الناجمة عن تطبيق قانون الدفاع.
يترتب على تفعيل قانون الدفاع وما تقرر بأثره من أوامر دفاع مجموعة من الآثار الاقتصادية الصعبة. وأحيانا تنظّم القوانين المعنية كيفية التعامل مع هذه الآثار وحكمها القانوني، وأبرز نص قانوني يبيّن الإثر المتدلّي على العقود جراء العمل بقانون الدفاع هو نص المادة 11 من قانون الدفاع الذي قرر وقف العقد الذي تعذر تنفيذه بسبب مراعاة أحكام هذا القانون أو أي أمر صادر بمقتضاه إلى المدى الذي يكون فيه تنفيذ العقد متعذرا.
إن أظهر عقد يمكن أن تغزيه بقوة آثار قانون الدفاع ويظهر أثرها بشكل جليّ على وجوه الناس هو عقد العمل، لارتباط أغلب الناس في حياتهم العملية بعقود عمل سواء كانوا من أرباب العمل أو من العمال، مختلفا بذلك عن كثير من العقود التي يكون تضرّرها من تطبيق قانون الدفاع أخف وطأة وأقل أثرا على شرائح المجتمع المتنوعة. لذلك صدر أمر الدفاع رقم 6 لسنة 2020 منظّما العلاقة بين أرباب العمل والعمال في هذه الظروف الاستثنائية، ولتقليل الاثار السلبية على هذين الطرفين.
ونتحسّس الأثر الانساني بهذا الأمر الدفاعي العمالي، رغم ما يشوبه من انتقادات قانونية، عندما لم يقرر وقف كافة عقود العمل بل فتح المجال لمجموعات من هذه العقود بالاستمرار والنفاذ بما يكفل حصول العمال على أجورهم كاملة أو أجزاء منها حسب مقتضى الحال، وتوصل استثناءً إلى امكانية وقف العقود بشروط محددة.
ومع ذلك، لا بد من تعزيز الأنسنة في العلاقات العمالية، بمراعاة أرباب العمل ظروف عمالهم المعيشية وضرورة التكافل معهم بتحمل الالتزامات المرهقة التي تفرضها الظروف الاستثنائية من خلال عدم اللجوء إلى الخيارات القانونية التي تثقل عاتق العمال، كونهم الطرف الضعيف بالعلاقة العقدية. إنما التوجه إلى أنسنة هذه العلاقة بوصف العامل الركن الأصيل باستمرار العملية الانتاجية ونمو رأس المال.
وحوصلة القول، إن التطبيق الجاف لقانون الدفاع يؤدي الى نتائج قاسية، ويبعث إعمال مبدأ الأنسنة في هذا التطبيق الى كسر جموده وتليين صلابة آثاره على كافة الأطراف، تحقيقا للرؤى الملكية السامية بالوصول إلى دولة الانسان ليبقى «الأردنيون كبار بين الأمم».