جاءتنا إلى المدارس وانا معلم في مدرسة الدجنية الإعدادية بمحافظة المفرق عام 1972، بلاغات ونماذج تطلب منا التسجيل في حزب "الاتحاد الوطني" فرفضت وحرضت على الرفض.
وانخرطت في العمل مع المعلمين الذين يطالبون بإحياء نقابة المعلمين الأردنيين.
تحدثت مع العم عبد خلف الداودية أول نقيب منتخب للمعلمين الأردنيين عام 1954 فقال لي أن حل النقابة عام 1958 كان بسبب موقفها السياسي المناويء للحكومات. وكان يمكن عدم حلها لو حل الحوار محل "النقار" بيننا وبين الحكومة.
قال لي العم ابو محمد انا لست تسييس النقابة، فثمة الكثير الكثير لانجازه من اجل مصلحة المعلم والطالب والعملية التعليمية والبلد، مما كان يقتضي علاقات "حسن جوار" مع الحكومات.
ومن الصدف الغريبة ان هيئة مفوضي احياء نقابة المعلمين، كانت تضم 3 طفايلة هم: إبراهيم الجرابعة وغالب الفريجات وأنا، بالإضافة إلى احمد جرادات وتيسير شحروري وخالد الحمبوز واحمد النسور وعبد القادر الحسنات ومنعم الصويص.
قررنا ان نطبع كميات كبيرة من مشروع القانون والنظام الداخلي لنقابة المعلمين لتوزيعها على المعلمين على نطاق واسع، فالتقينا في مدرسة التاج الثانوية التي كان مديرها إبراهيم الجرابعة وهناك سحبنا آلاف الصفحات على ماكينة الستانليس وفرغنا من ترتيبها وتكبيسها في مجموعات بعد منتصف الليل.
حملت نحو مئتي مجموعة و"طحت" نزول جبل التاج إلى الساحة الهاشمية حيث سرفيس عمان الزرقاء فوجدت مقعدا بصعوبة ونمت ليلتي تلك في الزرقاء. وفي الصباح الباكر كنت في سرفيس الزرقاء المفرق.
كنت اطوي أوراق النظام الداخلي للنقابة والقيها في الليل من فوق أسوار منازل المعلمين أو أدسها من تحت الأبواب، لأجد من يقول لي من المعلمين بعد أيام وهو يغمز بعينه: إن النظام جيد !!
فوجئت عندما تصفحت صحيفة "الشعب" التي كان يرأس تحريرها الاستاذ إبراهيم سكجها، بنشر النظام الداخلي لنقابة المعلمين على صفحتين في تلك الصحيفة. ذهبت الى مكتبة ماجد عنبتاوي في المفرق وابتعت كل أعداد صحيفة صوت الشعب ووزعتها على المعلمين المهتمين.
كان من تجرأ على نشر نظام نقابة ممنوعة، هو الصحافي محمد أبو غوش، الذي أسعدتني زمالتي معه في الصحافة بعدها بسنوات، وكان من تجرأ على إجازة نشر تلك المادة الخطيرة، هو "المعلم" إبراهيم سكجها، الذي تشرفت بالعمل بإمرته في صحيفة "صوت الشعب" في الثمانينات، أما من سرّب أوراق النقابة إلى الصحيفة فقد كان احمد النسور الذي تزاملت معه لاحقا في صحيفة "صوت الشعب" !!
عملت معلما في ست محافظات:
1- محافظة البلقاء: مدرسة سويمة عام 1966
2- محافظة معان: مدرسة فلسطين، مدرسة بير أبو العلق، مدرسة بير الدباغات ومدرسة الشمّاخ أعوام 1966-1969
3- محافظة الكرك: مدرسة مجرا عام 1969.
4- محافظة الطفيلة: مدرسة المعطن ، مدرسة بصيرا ومدرسة حد أعوام 1970-1972
5- محافظة المفرق: مدرسة الدجنية ومدرسة حمامة العموش ومدرسة عبد الله بن رواحة في المفرق أعوام 1972-1977
6- محافظة العاصمة: شهر واحد في المدرسة العبدلية عام 1977 استقلت بعدها وتفرغت للصحافة.
"لفّيت" الأردن، عملت في عدة قرى في وسط الأردن وفي جنوبه وفي شماله، في ظروف غاية في القسوة عانى منها المعلمون والمعلمات كافة في الستينات والسبعينات.
قرى كان فيها مدارس ومعلمون ومعلمات فقط.
لم يكن فيها ملاعب وكهرباء وطرق وسيارات وبنوك و أي.تي.ام. ومخابز وملاحم ومطاعم و عيادات صحية ومراكز طبية وصيدليات وكازيات ومساجد ومقاه وكوفي شوبات وبيرغر كنج وبيتزا هت ومكدونالد.
ولم يكن فيها دور سينما ومسارح ومكتبات وهواتف وتلفزيونات ولاب توبات وجوجل وفيسبوك وواتس اب و زووم وسكايب ونتفلكس.
تغلغل المعلمون عميقا في تضاريس وطنهم، بمتعة وفرح، عرفوا كيف يعيش أهلهم، ماذا يأكلون وماذا يلبسون وكم يصرفون وكم يستدينون ومتى يسددون.
بالنسبة لي تربطني اليوم أطيب العلاقات مع أهل القرى التي درست فيها ومع طلابي الذين كانوا بالنسبة لي بمثابة أبنائي. ومنهم من اصبح وزيرا كالبروفيسور فيصل الرفوع والدكتور سالم الخزاعلة.
عملنا بعيدا عن أهلنا. حتى عطلتنا الأسبوعية كانت يوما واحدا فقط. كنا نتحمم في السطل واللقن. ونغسل (نبح) ملابسنا الداخلية والخارجية. ونخيط فتق الملابس والأزرار المقطوعة. ونكوى ونعجن ونخبز. ونطبخ منسفا أو مكمورة أو مقلوبة. ونجلي ونحطّب ونصيد ونذبح ونسلخ ونقطع الخروف وننتف ريش الطيور والدجاج ونطبخها.
في مدرسة "المعطن" عملت بضعة شهور بمعية مدير المدرسة عطالله ارحيّل البداينة، الذي ظلت علاقتي به إلى اليوم في أزهى حالاتها وما زلت أنادي أبا وائل كلما ألقاه "مديري".
وذات يوم في مدرسة المعطن، شتمني احد الطلاب شتيمة من الزنار وتحت. خزقت الشتيمة أذني. كنا في الفرصة الصباحية وكان الطالب مع طلاب آخرين، يجلسون تحت السور يتشمّسون وكنت أقف قرب السور عندما سمعت الطالب وهو يطلق الشتيمة. لم يكن احد منهم يراني.
قلت لنفسي: إن عرف الطالبُ أنني سمعته فعليّ أن أعاقبه عقابا شديدا، يحفظ هيبتي أمام الطلاب، كي لا يجسر احدٌ من الطلاب على التطاول على أي معلم.
قررت أن اطبق قاعدة: "السفيه أُخسره" أي تجاهله.
"بلعتها". استدرت ورجعت، فلم يعرف الطالب أنني سمعته، ولم يكن من تمام التربية أن أخلق مشكلة يمكن أن لا تكون. ولم أحاول حتى ان اتحقق من وجه الطالب. وبكل تأكيد فإنني لو عرفته لما حملت عليه.
كيف، وانا شديد التأثر بقصيدة المقنع الكندي التي يقول فيها: "فليس كريم القوم من يحمل الحقدا".
في الدجنية عملت بمعية مدير المدرسة عواد الفنخور الخزاعلة الذي ربطتني علاقات طيبة به وبوالده ووالدته واشقائه وخاصة شقيقه سفيرنا في السودان محمود باشا الذي كان حينذاك طالبا في المفرق.
واستمرت علاقاتي بصديقي الشيخ عواد المحمد الخزاعلة أبو نايف -نص الدنيا- وابنائه النشامى وبالمعلمين نوفان الكراسنة وعبد الكريم عقاب الخالدي ومحمد الشوحة وبطلابي الدكتور عيسى الخزاعلة والأستاذ ناصر الراشد الخزاعلة.
ولما أصبحت وزيرا للشباب بادرت إلى إنشاء مركز للشباب في بلدة الدجنية عام 1996.
كنا نعيش في القرى التي نعلّم فيها. لم نكن زوارا عابرين. كنا "نعيش" في القرى، نعم نعيش بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
كنت ادخل في شراكة مع فنخور، فنزرع أرضه قمحا وحمصا، ليس بقصد الربح، بل بقصد المتعة التي يحصل عليها الفلاحون وهم يراقبون السماء ينتظرون غيثها، ويراقبون الزرع ينمو إلى أن يصبح قمحا نفرّكه، أو حمصا نشويه.
يوميا، بعد ان نتناول طعام الغداء (سردين، تونا بولبيف، باميا حوس، رشوف، بيض مقلي، تمر مقلي بالسمن او الزبدة البلدية، دبس بالطحينية، لبنة مدحبرة، مقالي...).
وبعد استراحة قصيرة، كنا ننطلق إلى الملعب الترابي: المعلمون والطلاب. نلعب كرة القدم او نجري مسابقات العدو والقفز والعاب التسلية إلى أن تغيب الشمس وتصبح الرؤية متعذرة بجمهور كبير من اهل القرية، يشجعين هذه المجموعة او تلك.
في الدجنية توليت تحطيم الصخور في زاوية الملعب ب"المهدّة" التي سلّخت ايدينا، كي نمهد الملعب ما أمكن ليصبح آمنا للعب على ارضه. وكنا نرتب مباريات كرة قدم مع مدارس القرى المجاورة التي نذهب إليها ونعود منها سيرا على الأقدام.
وبالإضافة الى حصصي الاسبوعية المقررة، كنت معلم كشافة، أتحرك مساء مع طلاب مدرستي الدجنية وحمامة العموش على الطريق المتجه إلى جرش، نمشي على علامات الكشافة نهتدي بها إلى نقاط التجمع، في أجواء أسرية حميمة لا مثيل لنقائها وصفائها. (بدون عمل اضافي !!).
كنا في الطابور المدرسي الصباحي عندما لفت عواد فنخور انتباهي إلى امرأة تنطلق بسرعة صاروخية هجومية متوجهة إلينا.
لكزني عواد بكوعه قائلا: أتعرف من تلك المرأة؟ قلت لا. قال: هذه هي أم الطالب الذي عاقبته يوم أمس، وهي امرأة شرسة قوية لن تتورع عن بهدلتنا ومسح الأرض بنا كلنا أمام الطلاب.
وأكمل وهو العارف بالقرية: الله يسامحك يا محمد، ما اجيت توقعنا الا معها ؟!
قلت له: خليني أتصرف.
قال مستسلما لقضاء الله وقدره: تفضل دبّرها.
وصلت المرأة التي تقدح عيناها شررا وتقدح قدماها حجارة صوّان، واعين الطلاب تتحرك نحوها ونحونا، تشفق علينا أو تتشفى بنا. وانا والمعلمون نبلع ريقنا.