يشهد العالم المتقدم تحولاً منذ عقود بإتجاه التعليم المهني والتقني، لأن هذا التعليم إضافة للتعليم الهندسي هو عنوان التقدم لجميع الدول الصناعية الثمانية الكبار سابقاً والعشرون الكبار حالياً بعد دخول دول جديدة ساحة الكبار، وكون التعليم التقني محسوب على التعليم العالي، وندرك جميعا أننا دولة دون موارد طبيعية تذكر كالنفط وغيره، وكما قال عالم ياباني ( جميع الدول لديها موارد تحت أقدامها؛ أي النفط وغيره، تنضب مع مرور الزمن، أما نحن فلدينا موارد فوق أقدامنا ويعني العقل، لا تنضب بمرور الزمن) وهذا سر تفوق المارد الياباني، مع أن اليابان مجموعة من الجزر المتناثرة وليس لديها موارد طبيعية تذكر، بل اعتمدت على إقتصاد المعرفة وهي تستورد غالبية مدخلات الصناعة لديها، وقيمتها المضافة المعرفة، وهكذا نهضت وصارت من الكبار في الإقتصاد العالمي.
من هنا تغدو الحاجة ملحة في بلدنا، بعد سنوات من الدوران في حلقة مغلقة ومفرغة لنظمنا التعليمية، تأخر في كل شيء، مديونية تتضاعف، مساهمة خجولة جدا في الإقتصاد العالمي، معدلات بطالة مخيفة، تشعبت الإجتهادات والإستراتيجيات والنتيجة مكانك سر.
فهل نفكر خارج الصندوق، ونعمل في الإقتصاد المعرفي الذي تزين مصطلحاته تقاريرنا وتصريحات مسؤولينا، وأشك أن بعضهم يدرك ماهيته، والتي اختصرها بمثال( عند شرائك حبة دواء بدينار قد لاتكون كلفة إنتاجها عشرة قروش، إذاً أنت تدفع تسعون قرشاً للمعرفة والعقول التي اكتشفتها وصنعتها..!) لاحظوا الإستثمار في المعرفة والعقول تسعة أضعاف الإستثمار بالموارد وتزيد في منتجات أخرى، من هنا يجب أن يفكر مجلس التعليم العالي خارج الصندوق والتقليدية التي نجترها من جيل إلى جيل في نظامنا التعليمي، كيف؟ أنظروا إلى جامعاتنا والتخصصات فيها، سنرى انها تدور حول تخصصات تقليدية نظرية في الغالب تغذي سوق البطالة، ماذا لو حولنا هدفنا ووجهتنا نحو التعليم التقني، سواء في مستواه المتقدم الجامعي، أو مستوى الدبلوم، واعتقد أن قانون الجامعات الرسمية يسمح بذلك، ويمكن تعديل التشريعات لتسمح لجامعاتنا بتخريج تقنيين، بحيث توجه الجهود في جامعاتنا نحو التعليم التقني، ونبني قاعدة عريضة من الفنيين والخبراء في المجالات التكنولوجية الصناعية في شتى الحقول والتخصصات، وخاصة في مجالات حديثة متفردة تعنى بالذكاء الصناعي والتخصصات النادرة المتقدمة، وهذا سيساعدنا على استقطاب إستثمارات عالمية ومحلية في مجالات الصناعة المختلفة، وكذلك توفير فنيين ومتخصصين بمستوى عالمي يعملون في مجال الخدمات في الشركات العالمية العابرة للقارات، طبعا يجب أن لا يكون التأهيل كما هو الآن كلاسيكي قديم لا يواكب متطلبات سوق العمل العالمي، إذا عملنا بهذا الإتجاه وعممنا التعليم التقني على كل الجامعات الوطنية عامة وخاصة، سنتخلص من أجيال من الخريجين الذين يغذون سوق البطالة، وننتقل لمجتمع تكنولوجي متطور، يفرض نفسه في السوق العالمي، ويستقطب طلبة أجانب، واستثمارات لا حدود لها، ولنا في التجربة المتقدمة لجامعة الحسين التقنية خير مثال يمكن تطويره والبناء عليه، وربما رجعنا لإقتراحات سابقة لوزير تعليم عالي سابق بخصوص هيكلة التعليم التقني في الأردن وربط الكليات بالجامعات القريبة منها، وإعادة تقييم تجربتنا الحالية.
ومن منظور عوائد التربية الإقتصادية وحسابات التكلفة للتعليم، والتي أشك أن وزارة التعليم العالي قامت بها سابقا، إذ لا يوجد إحصائيات رصينة لكلفة الطالب حتى يتخرج من الجامعة، ومن ثم دراسات إحصائية للمردود من عمله في مجال تخصصه بعد التخرج، لنعرف هل نسترد ما ندفعه؟ وبعد كم سنة يسترد الخريج ما صرف عليه، طبعا بشكل فردي ووطني من خلال المساهمة الكلية للقوى العاملة في الناتج القومي حسب القطاعات، الدول المتقدمة لديها مثل هذه الدراسات والإحصائيات، وبعض الدول يسترد الخريج ما انفق عليه في بضع سنوات وقد تمتد لثمان سنوات أو اكثر حسب إمكانات التشغيل والوضع الإقتصادي ودورة رأس المال، فهل لدى صانع القرار تصور بهذا السياق؟ أشك في ذلك… ! العشوائية وسوء التخطيط تغلبت علينا، وأصبحنا خدامها من حيث لا نعلم، حتى لو ادعى البعض نجاحات وهمية لا يوجد دليل عليها… !
لنتجه نحو الجامعات التقنية، ولنعمم الفكرة من منظور وطني، وسنحصل على نتائج في المدى المنظور، أما ما نحن فيه فلا يعدو الدوران في حلقة مفرغة من خريجين ليسوا بالمعايير العالمية، حتى مصانعنا وصناعنا ومشغلينا بمحدوديتهم النسبية، غير معجبين بما نخرج… ! حمى الله الأردن.