من البدهي ان يقف العقلاء، ومن يؤمن بالعدل ويدافع عنه مع الطرف الاضعف في أي حالة من حالات الصراع. إذ من النادر ان يكون هناك توازن في الحق او القوة او المشروعية بين اي طرفين متصارعين، لذلك يجب على غير المنغمسين في الصراع، البحث الواعي المحايد عن صاحب الحق قبل ان يحددوا موقفهم بالتأييد او المعارضه لحسم الصراع.
التسرع في الانحياز والتأييد، لاحد الاطراف قبل التحقق من انه يستحق المساندة، هو حالة سيلان عاطفيه، ومغامرة تدخليه، تزهق الحق وتزهر الباطل، وتؤسس للعدوان ومغالبة القانون.
هذه المقدمة كان من الضروري أن ابدأ بها قبل الولوج في الحوار الوطني الذي يقتصر بعضه على المقدمات والبعض الاخر على المآلات فيما جرى لنقابة المعلمين.
هناك حيرة في تفسير المغامرة او المقامرة التي ارتكبها مجلس نقابة المعلمين. فالبعض يرى ان الدافع مطلبي بحت تركز على إسترداد علاوات المعلمين المخصومة، وهناك من يرجعه الى سعي النقابة لفرض اجندة الاخوان على المناهج المدرسية. فيما يرى اخرون انها اتت في اعقاب قرار محكمة التمييز، الذي نزع الشرعية القانونية عن جمعية الاخوان المسلمين بعد طول تردد على التمرد. وبالتالي فإن ما قام به مجلس النقابة، هو غزوة استخدم فيها رباط المعلمين في الساحات بدلا من رباط الخيل، لارهاب الحكومة وآخرين من دونها، وهم الشعب المستقل التوجه، الوطني الانتماء. حتى تتراجع عن تنفيذ القرار القضائي، وهو مطلب ينتهك الدستور الذي يفصل بين السلطات ولا يجيز للسلطة التنفيذية التدخل في القضاء أو ابطال قراراته.
ايضا، يُلقي التحليل الموضوعي لبواعث الحدث، الضوء على ما يجري في ليبيا. نظرا لان معظم المعلمين ومعظم اعضاء مجلس النقابة إما اعضاء في تنظيم الاخوان او متعاطفين معهم، لذلك، فإن من غير المستغرب ان يعتبر تنظيم الاخوان في الاردن ان النقابة هي ذراع من اذرعهم وان بوسعهم استخدامها لصفع الحكومة والضغط عليها لتنسحب من المشهد الليبي، واخلاء ساحة ليببا العربية للاحتلال الاجنبي التركي الذي يتحالف الاخوان معه. سيما وأن يشكلون طلائع الجيش التركي لإعادة احتلال البلدان العربية حسبما يرى البعض. وعلينا ان نذكر هنا ان تيارات الاسلام السياسي عموما لا تعترف بالحدود السياسية للدول العربية، ولا تؤمن بشرعية الكيانات السياسية العربية. فهي ترى انه لا يزال يوجد فراغ سياسي منذ سقوط الخلافة التركية. هذا الفراغ لا تملأه حسب اعتقادهم، الا خلافة جديدة او متجددة.
لا يدرك بعض من يلعبون في السياسة ان القرون العشرة التي تلت مولد المسيح، والتي شهدت نشوء الامبراطوريات الدينية قد ولت ولن تعود. كما لا يدركون توازنات القوى العالمية الحالية، ومديات وفضائيات القوة القاهرة للدول التي تحكم العالم وتتحكم به بفضل استخدام العلوم والتكنلوجيا المتطورة "المعلوم منها والمخفي" مقارنة بحالة التخلف الثقافي والضعف الاقتصادي والعسكري والعلمي والمعرفي بل والوحدة الوطنية لدى دول وشعوب العالمين العربي والاسلامي. وبناءا عليه، فإن شهوة تفسير حلم استعادة امبراطورية اسلامية لن يفضي فقط الى إبقاء العرب والمسلمين، شعوبا وحكومات، نائمين في الكهف الذي ولجوه منذ قرون عتيقة، بل انه سيتسبب في هدم الكهف عليهم وتحويله الى مقبرة جماعية، واعادة احتلال وتقاسم اراضيهم ومواردهم ما بين الهند والصين وامريكا واوروبا.
وبالعودة الى التفسيرات التي بينتها آنفا لتصرفات نقابة المعلمين، ، فإنه وفيما يتعلق بمطلب النقابة باسترجاع العلاوات، لا يجادل منصف بتدني رواتب المعلمين. غير ان من الانصاف التأكيد على ان تدني الرواتب ينسحب على بقية من يعملون في الحكومة بكافة اجهزتها وكذلك المتقاعدين، خاصة من تقاعد قبل عقد من الزمان تراجع خلالها مستواهم المعيشي الذي كان سيئا اصلا ليصل الى غاية السوء بسبب متغير الاسعار الذي لم يتوقف عن القفز على درجات سلم التضخم، ناهيك عن المتغيرت المستقلة الاخرى كمتغير الزمن الذي يغير الحاجات ويغير السلع التي تراها الاعين وتشتهيها الانفس، وتطور هيكل اسرة المتقاعد. لذلك فإن مطالبة المعلمين بتحسين دخولهم هو طلب مشروع من حيث المبدأ وهو واجب نقابتهم. الا انه يؤخذ على مجلس النقابة انانيتها. ذلك أن قرار الحكومة باقتطاع جزء من الرواتب شمل العاملين في القطاع العام كله. فكيف تتوقع النقابة بعد ذلك ان يقف معها من تخلت عنهم خصوصا وانه ليس لهم نقابات كما للمعلمين تطالب لهم وتدافع عنهم.
في الوقت ذاته، فانه لا بد من تذكير النقابة ومن يؤيدها عاطفيا وعشوائيا، أنه في دول العالم التي اخترعت النقابات، يتم الربط بين الزيادة في الرواتب وبين الزيادة في الانتاجية. والانتاجية تقاس كما وكيفا.
من حقي ومن واجبي أن أوجه الاسئلة التالية لمجلس نقابة المعلمين ومن يساندها، وللمعلمين، ولاهالي طلبة المدارس السؤال التالي: هل طرأ تحسن على انتاجية المعلمين خلال السنوات العشر او العشرين الماضيه؟ السؤال الثاني: لماذا لم تتوقف شكاوي اهالي الطلبة من استمرار تراجع المستوى التحصيلي والمستوى التربوي لطلبة المدارس الحكومية، ولماذا يستعين الاهالي بالمدرسين الخصوصيين او يهربون بابنائهم الى المدارس الخاصة المكلفة جدا.السؤال الثالث، من هو من اساتذة الجامعات الاردنية الذي لا يصاب بالاحباط اثناء المحاضرات من تدني التحصيل المعرفي للطلبة وضعف قدرتهم على استيعاب المناهج الجامعية رغم انهم يتعاملون مع الحاصلين على أعلى المعدلات في إمتحان الثانوية العامة.
اذا كانت الاجوبة على الاسئلة السابقة ليست لصالح النقابة والمعلمين وأنا متيقن انها كذلك، فإن على المعلمين ونقابتهم ومؤيديهم مراجعة موقفهم. فالحق احق ان يتبع. وقد امتدح القران النفس اللوامه.
أما عن بقية مطالب مجلس النقابة، فإن من حقي وحق الكثيرين ان يسأل مجلس النقابة عن دوافع توقيت الاعلان عن تحدي الحكومة ومواجهتها بالقول والفعل؟ وهل لهذا الحشد والتحشيد، حقا علاقة بقرار محكمة التمييز بنزع الشرعية القانونية عن جمعية الاخوان المسلمين التي ينتمي اليها نسبة عالية من المعلمين ومجلس النقابة؟
إذا ثبت وجود عامل ارتباط، فإنه لا بد من اعادة تعريف هوية النقابة. هل هي نقابة للمعلمين أم نقابة للاخوان؟ وهل هي احدى مؤسسات المجتمع المدني، ودعامة من دعامات بناء الوطن، أم ذراع لطرف سياسي يمثل نسبة بسيطة من مواطني الاردن وسكانه يريد فرض اجندته السياسية والايدلوجية على المجتمع الاردني بالقوة الناعمة او الخشنة اذا لزم الامر؟ وما هو موقف المجتمع الاردني اذا أُجري استفتاء وطني للاجابة على السؤالين التاليين؛ الاول : هل يتسامح الشعب مع اهمال النقابات المهنية لوظيفتها المهنية التي نص عليها الدستور ونصت عليها القوانين التي انشأتها ويتقبل انحرافها عن واجبها الاهم، لتدخل المعترك السياسي والانشغال بالتحالفات والمناكفات والتجاذبات السياسية؟
السؤال الثاني: هل يجوز ان تصبح نقابة المعلمين الاردنيين، ذراعا لحركة الاخوان الاسلامية العالمية العابرة للحدود وتقديم مصالح دولة اجنبية على المصلحة الوطنية؟
ثم، من قال ان المجتمع الاردني بغالبيته بمن فيهم تيارات الاسلام السياسي المتعددة المتنافسة والمتناقضة، يقبل ان تفرض جماعة الاخوان اجندتها على المناهج الدراسية لتحويل المجتمع بالاكراه الى قطيع يتبع جماعة الاخوان، وان تستوحى المناهج من فريزر التاريخ الذي طال عليه الامد، والمختلف عليه بين التيارات الاسلامية ذاتها، في الوقت الذي يحظي فيه طلبة المدارس في الدول المتقدمة بكل ما يؤهلهم لمواجهة تحديات عصرهم وأن يصنع كل جيل حضارته، لا أن يتوارث حضارة الاموات. اي أن الغربيون يطبقون حديث النبي: "انتم اعرف بشؤون دنياكم"
واخيرا، فإن اخطر ما قيل، هو ما يتعلق بمحاولة مجلس النقابة تغيير الموقف الرسمي الاردني من الصراع في ليببا. ان صح هذا الامر، فإنه يعني أن مجلس النقابة يرفض الدستورالاردني الذي يعتبر الاردن دولة عربية وانها جزء من العالم العربي. كما انه يخالف القانون الاردني. فالاردن عضو في جامعة الدول العربية وموقع على ميثاقها واتفاقية الدفاع العربي المشترك. هذا الميثاق يعتبر وفقا للقانون الدولي ملزما ويتفوق على القانون الوطني للدول الموقعة عليه. كما ان مطلب مجلس النقابة، إن صح انه رمى الى هذا الهدف، يتنكر الى الاسس والشعارات التي نادت بها الثورة العربية الكبرى وهي مصدر مشروعية النظام السياسي الاردني. موقف الحكومة الاردنية في ليبيا يترجم شعارات الثورة العربية، الثورة التي قامت لاحياء القومية العربية وتحريرها من الاحتلال المستبد الذي استمر لاكثر من خمسمائة عام من التخلف والانحطاط والاستغلال والظلم. فبعد ان كان العرب هم حكام العالم، اصبح ينظر اليهم ولثقافتهم بدونية واحتقار من الاتراك اولا، ثم من الاوروبيين والامريكان وحتى اليهود.
الحكومة الاردنية واستنادا الى رياديتها للنضال القومي العربي، لا تملك الا ان تنحاز للجانب العربي في اي صراع مع أي طرف غير عربي.
لقد تجرأت دولة اقليمية غير عربية على التدخل في الصراع بين اطياف الشعب العربي الليبي وانحازت لطيف من بينها بدوافع ايديولوجيه. ولم يتوقف تدخلها عند التأييد السياسي، بل تحول الى احتلال عسكري بزعم أنه طُلب اليها التدخل من قبل ذلك الطيف الذي انتهت شرعيته منذ سنوات، ومع ذلك يصر على امتلاكها ليستمر في موقعه كرأس جسر لقوى خارجية لا تريد الخير للشعب الليبي.
مطامع تركيا في ليبيا تستخدم الايدولوجيا والديماغوغية لانجاز مشروعها الحقيقي وهو نهب ثروات الشعب الليبي، وتوظيفها لتمويل احتلالها لاجزاء من الارض العربية السورية، والتخطيط للتدخل في الشأن الداخلي لجمهورية مصر العربية، لخلق فتنة بين مكونات الشعب المصري واشغال الحكومة المصرية عن استكمال مشروعها في بناء مصر الحديثة القوية، ولخلق حالة فشل وفوضى تبرر تغيير نظام الحكم الذي اختاره غالبية الشعب المصري في استفتاء شعبوي جارف، واستعادة نظام ايديولوجي رفضه عشرات الملايين من الشعب المصري كما شاهد ذلك وراقبه معظم العالم.