بمناسبة الاحتفالات في مئوية تأسيس الدولة التي تُقام هذه الأيام، أرغب بإحياء ذكرى رجال من عامة الشعب، كان لهم أثر كبير في المساهمة بتأسيس الدولة والحفاظ عليها في حينه. فاخترت من بينهم أربعة رجال، اثنان منهم مدنيان والآخران عسكريان.
• الشهيد وصفي التل. وقد شكل 5 حكومات في فترات متفاوته خلال السنوات من 1962 – 1971. وعندما كثرت الإشاعات والاتهامات على الأردن في ستينات القرن الماضي، قال وصفي :
1. " الذين يعتقدون أن هذا البلد قد انتهى . . واهمون، والذين يعتقدون أن ه ذا البلد بلا عزوة . . واهمون كذلك، والذين يتصرفون بما يخص هذا البلد كأنه ( جورعة ) مال داشر . . واهمون كذلك، والذين يتصرفون كالفئران الخائفة على سفينة في بحر هائج، سيغرقون هم كما تغرق الفئران. وستبقى السفينة تمخر العباب إلى شاطئ السلامة ".
2. ثم قال وصفي أيضا : " البلد لا يستحق سوى الأجلاّء الأعزّاء، رغم تآمر اللا أبالية والفساد على سمعته. لقد أوصَلَتْ هذه الحكومة الأمور في هذا البلد الطيب إلى درجة من الفوضى والهوان والفساد حدا لا يصح السكوت عليه، كائنة ما كانت الظروف ".
• الشهيد هزاع المجالي. رغم أن حكومته استمرت لفترة قصيرة جدا عام 1955 إلاّ أنه :
1. أصدر تعليماته بعدم استعمال الشدة مع المتظاهرين ضد حلف تمبلر، وذلك بعكس نصائح الآخرين له، وعوضا عن ذلك قدم استقالة حكومته إلى الملك حسين خلال 6 أيام من توليه الحكم.
2 . لقد دعا هزاع المجالي إلى التماسك واللقاء والتساند، بدلا من التصادم والمجابهة، وقد قبل بفكرة الكيان الفلسطيني وإنشاء جيش فلسطيني. فكان أن اغتيل ثمنا لهذا الموقف، إذ امتدت له يد الغدر والخيانة، في صباح يوم 29 / 8 / 1960 وفجرت مبنى رئاسة الوزراء فوق رأسه، في اليوم الذي خصصه لاستقبال المواطنين في مكتبه.
3. ومن أقواله : " استعرضت الحياة النيابية في شرقنا العربي، فإذا هي مجرد تقليد وعمل استعراضي. فالثوب الذي وجدناه جاهزا ولبسناه، جاء فضفاضا لا ينسجم وحقيقتنا. فلقد حاكه الغرب نبذة نبذة وخاطه قطبة قطبة، وبذل من الجهد ما اقتضاه مئات السنين نصَبَا وتعبا ودموعا ودماء، حتى طابق الثوب حقيقته ولبسه فارتاح. فلما لبسناه نحن بحقيقتنا وعقليتنا وروحيتنا، التي تختلف عن حقيقة الغرب وعقليته وروحيته، لبسنا ثوبا ليس لنا . . ثوبا أخذ يصرخ في وجوهنا : أقلعوني عنكم أيها الشرقيون ".
• المقدم حابس المجالي ( المشسير لاحقا ). المقدم حابس المجالي كان قائد الكتيبة الرابعة، هو أول قائد كتيبة أردني في الجيش العربي خلال حرب عام 1948.
1. قامت الكتيبة الرابعة التي كان يقودها حابس بصد هجمات عديدة، قامت بها قوات البلماخ اليهودية، على مواقع الكتيبة في مرتفعات اللطرون، اعتبارا من فجر يوم 25 أيار 1948. ونظرا لأهمية الموقع باعتباره مفتاحا لاحتلال القدس، فقد شكل بن غوريون بتاريخ 28 أيار قوة كبيرة، مؤلفة من ثلاثة ألوية بقيادة العقيد الأمريكي ديفيد ماركوس، وأمره باحتلال موقعي اللطرون وباب الواد اللذين تحتلهما على التوالي كتيبتي المشاة الرابعة والثانية. وكانت النتيجة فشل الهجوم وخسارة العدو الكثير من القتلى والجرحى.
2. بتاريخ 1 / 6 / 1948 زار الملك عبد الله بن الحسين الكتيبة الرابعة، واستمع إلى شرح عن العمليات التي جرت في الموقع، وعندها التفت الملك إلى حابس وقال : " إنك وجنودك تدافعون عن أرض سبقكم للدفاع عنها قادة عظام، من أمثال عمرو بن العاص وصلاح الدين، ومن سمّاك حابس ما أخطأ لأنك حبست العدو، وحِلتَ دون تقدمه. إن كتيبتك الرابعة هي الكتيبة الرابحة بعون الله ".
3. في ليلة 8 / 9 حزيران زحفت قوات العدو تحت ستر الظلام إلى مواقع الكتيبة الرابعة، ودار قتال عنيف بين الطرفين، وتمكنت القوات المهاجمة من الوصول إلى مسافة 70 ياردة عن قيادة الكتيبة. فقام حابس بتجميع آخر قوة متوفرة لدية، للقيام بهجوم معاكس وطرد العدو من الموقع. وفي هذا الموقف الخطير، سأل حابس طبيب الكتيبة يعقوب أبو غوش الذي كان يقف إلى جانبه : كم طلقة في مسدسك ؟ أجاب الطبيب 6 طلقات. فقال حابس في مسدسي أيضا 6 طلقات وصمت لحظة ثم قال : سنبقى هنا . . وإذا وصل إلينا جنود العدو . . سيطلق كل واحد منا 5 رصاصات عليهم . . أما السادسة فسنطلقها على أنفسنا . . !
• الرائد عبد الله التل ( العميد لاحقا ). لقد كان عبد الله التل قائد الكتيبة السادسة، من أذكى وأشجع ضباط الجيش العربي، وأكثرهم كرها للإنجليز. وقد أطلق عليه لقب " بطل معركة القدس " نظرا لما قام به من معارك ناجحةضد اليهود في مدينة القدس، ثم أصبح حاكما عسكريا لها في وقت لاحق.
1. كانت أولى زيارات رئيس أركان الجيش العربي كلوب في 21 / 6 / 1948، أي بعد أكثر من شهر من نشوب القتال. وعندما وصل إلى الروضة في القدس التقى عبد الله قائد الكتيبة السادسة وهنأه على النجاح الذي أحرزته قواته. قدم له عبد الله نسخة من تقريره لتقييم الموقف. وبعد أن اطّلع عليه كلوب أعجب بما احتواه، فابتسم وهزّ رأسه دليل الرضا.
2. وفي حديثه مع التل فاجأه بتقديم مكافأة مغرية له، هي عبارة عن إجازة لمدة شهر أو شهرين يقضيها في فرنسا أو بريطانيا على حساب الجيش، معللا تلك المكافأة بأنها تقدير للجهود الجبارة التي بذلها التل في القتال، ويقصد منها للراحة والاستجمام بعيدا عن المتاعب. دُهش عبد الله لهذا الكرم العجيب من رئيس الأركان ولكنه لم يتأخر في الرد عليه، إذ أدرك قصده من وراء هذه المكافأة، فاعتذر عن قبول الإجازة وبين لكلوب، بأن الحالة لا تسمح ( بشم الهوا ) وأن ضميره لا يسمح له بترك إخوانه الضباط والجنود في ميدان القتال، والسفر للترويح عن نفسه.
وختاما أقول أن أولئك الرجال، هم من ضحّوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا أمناء على الوطن والمواطنين، ولم يفرّطوا ذرة من ترابه أو ثرواته، ولم يمارسوا استغلال الوظيفة واللجوء إلى الفساد، بل غادروا الدنيا ولاقوا وجه ربهم فقراء، لا يحملون من الدنيا إلاّ أعمالهم الصالحة. وعلينا البوم أن نترحم عليهم، وندعو لغيرهم بأخذ الدرس والعبرة . . !