في معرض قراءتي لموسوعة "عمان أيام زمان"، الجزء السابع، لمؤلفها سعادة الأخ الفاضل عمر محمد نزال العرموطي، أنْ لفَتَ نظري في توثيقه لجزء من كتاب المرحوم معالي د. كامل أبو جابر بعنوان " ذكريات من رحلة العمر" ما ذكره أبو جابر عن نوادر سَمِعَها عن الملك المؤسس جلالة الملك عبد الله الأول بن الحسين طيب الله ثراه.
إحدى تلك النوادر تُلقي بظلالها على مكانة ونزاهة واستقلال القضاء الأردني الذي نَعتّز به ونضعُ كلَّ ثقتَنا به في انحيازه إلى إقامة العدل بين الناس وانصاف المظلوم. وسيبقى على الدوام شعارُ مملكتنا الحبيبة "العَدْلُ أساس المُلك".
فبدون قضاء عادلٍ ونزيهٍ وشفَّاٍف تَدُّبُ الفوضى في المجتمع، وتُهدر حقوق المواطنين، وَيَستقوِي القويُّ بالضعيف، وتتخلخل البنية الإجتماعية، ويتعرض الأمن الإجتماعي للخطر، ولكنَّنَا وبحمد الله وَنِعَمِهِ نَفخَرُ بقضائنا الأردني على مرِّ السنين وخصوصاً ونحن نقف عتبة المئوية الثانية من عمر الدولة، ونُكبر بهيبة القضاء الأردني العادل وبما وصل إليه من مكانةٍ مقدّرة، وملجئٍ حصينٍ يلجأ الناس إليه لنيلِ حقوقهم في إطار سيادة القانون ومظلّةِ العدل، حيث لا يُسمح لأحد كائناً من كان بالتدخُّلِ في سيرِ أمور القضاء أو التأثير عليه أو العمل على انحراف بوصلته عن عودة الحقوق لأصحابها.
وعودةً إلى ما سرده المرحوم أبو جابر، فقد روى حادثة تبيّنُ مدى مكانة القضاء الأردني النزيه في عيون الهاشميين كابرا عن كابر، وصولاً إلى المكانة المتميزة التي يتمتع بها سلك القضاء الأردني اليوم.
ففي إحدى السنوات وأثناء تقديمِ التَهاني لسموِّهِ آنذاك بمناسبة عيد الفطر، حيث كانت هيئة محكمة التمييز قد حضرت إلى الديوان الأميري من أجل معايدة الأمير وتقديم التهاني له، قدَّم سمو الأمير ورقة صغيرة كَتَبَ عليها شيئاً ثم طواها، ووضعها في يد رئيس محكمة التمييز القاضي علي مسمار المشهور، يقول فيها: " أرجو أن تنظر في الأمر". وتقول تتمةُ القصة بأنَّ رئيسَ المحكمة بعد أن اختفى عن أنظار سمو الأمير قام بتمزيق هذه الورقة إلى قطعٍ صغيرةٍ ورماها في سلة القمامة دون أن يقرأها.
ويقال أن أحدهم قد أعلم سمو الأمير بما فعله رئيس المحكمة. وعندما عادت نفس هيئة المحكمة في العيد التالي وهو عيد الأضحى بعد سبعين يوماً، وبعد شرب القهوة قام سمو الأمير من مكانه ومشى نحو رئيس المحكمة وقام بتقبيل رئيس المحكمة على رأسه وقال له : "أشكرك كل الشكر على ما فعلته".. فقال رئيس المحكمة محرجا ومستغرباً: "ما الذي فعلته يا مولاي حتى أستحق كل هذا الشكر والتكريم من سمو سيدنا؟"..
فقال الأمير: "إنَّ الذي كَتَبْتُهُ بالورقة التي مَزَّقْتَها معلومة تقول أنَّ عائلةَ أحدِ المساجين الذي طال اعتقاله دون محاكمة استجارت بي ... وأنَّ كل ما كَتَبَهُ الأمير هو رجاءٌ إلى رئيس المحكمة بأنْ يُسرع بالنظر بتلك القضية ... أنا لم أكتب لك بأنْ تحكُمَ يميناً أو يسارا... فكل ما هنالك الرجاء بالإسراع بالنظر في هذه القضية".
يا لروعة هذه الحادثة المميزة ليس فقط بنظر د. أبو جابر بل بنظرِ كلِّ الأردنيين لأنها إنمَّا تدل على نزاهة القضاء الأردني الذي نفخرُ به ويشكّل عنواناً هاماً من عناوين المئوية الثانية. ويُكمل أبو جابر قائلا: "ابتعاد الدولة الأردنية منذ تأسيسها عن التدخل به [أي القضاء] واحترامه حيث لا عبدالله الأول ولا طلال ولا الحسين أو اليوم مليكنا الشاب عبد الله الثاني تدخل في استقلال وشؤون القضاء".