يعتبر اختراع الورق من أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية، حيث استخدم للتوثيق ولنشر العلم ونقل الرسائل، كما استخدم في التغليف والعديد من الاستخدامات الأخرى، حتى في عصرنا الحديث الذي سيطرت عليه الاجهزة الالكترونية، ما زال الورق يحتفظ بأهميته.
كان السبق في اختراع الورق للمصريين القدماء وذلك عام 2700 ق.م، إذ كانت تصنع أوراق الكتابة من نبات البردي، ثم تلى ذلك ابتكار الصينيين لعجينة يتم سحقها لتأخذ شكل السطح المفرود ليكون قابلاً للكتابة عليه بعد اضافة مواد معينة لمنع انتشار الحبر.
ثم انتقلت طرق الصينيين إلى العرب المسلمين، وازدهرت صناعة الورق في عهد الخليفة هارون الرشيد، حيث كان للفضل بن يحيى البرمكي الفضل في تأسيس أول مصنع للورق في بغداد حوالي سنة 178 هـ/794 م، وبدأ استخدام الورق في دواوين الدولة. وطور المسلمون هذه الصناعة، حيت أنتجوا أنواعاً جديدة من الورق، مثل ورق الحرير، وورق الكتابة، والورق المقوى وغير المقوى والورق الناعم والخشن والأبيض والملون.
كما أدخل المسلمون نبات الكتان في تصنيع الورق، بدلاً من لحاء شجر التوت الذي استخدمه الصينيون، وابتكروا أسلوب تصنيع العجينة ورقها، وقد استفادت بلاد الشام كثيراً من مقدرتها على زراعة القنب، وهي نبتة ذات ألياف طويلة قوية، فكانت مادة جيدة لإنتاج ورق عالي الجودة.
في غضون مئتي سنة من أول إنتاج له في بغداد، انتشر الورق في مختلف أنحاء العالم الإسلامي كغيره من السلع والمعارف، فوصل إلى الشام، ثم إلى مصر بحلول عام 800 م، ومنها انتقل إلى شمال إفريقيا، ثم إلى الأندلس نحو عام 950 م، وسرعان ما اشتهر المسلمون في مدينة شاطبة في اسبانيا بصناعة الورق السميك اللماع المعروف بالورق الشاطبي، وساعد تطور صناعة الورق في الإكثار من صناعة الكتب وانخفاض سعرها، لأن الورق حل محل المواد النادرة والمكلفة كورق البردي والرقاع.
عرفت أوروبا الغربية الورق عن طريق صقلية والأندلس، وكان أول استعمال أوروبي له هناك يعود إلى ملك صقلية روجر في عام 1102 م، كما يوجد أمر كتبته زوجته باليوناينة والعربية معاً في عام 1109 م، واستخدم الورق أول مرة في إيطاليا سنة 1154 م، وفي ألمانيا سنة 1228 م، وفي إنجلترا سنة 1309 م، واستعمل في القسطنطينية سنة 1100 م. وهكذا فقد تسارع انتشار المعرفة في أوروبا بفضل هذه الكتب الورقية الرخيصة وغير المكلفة.
أقيم أول مصنع للورق في أوروبا بإيطاليا عام 1276 م بمدينة فابريانو، وسرعان ما تبعه إنشاء مصانع أخرى، كمصنع في إيطاليا أيضا بمدينة بولونيا عام 1293 م. غير أنه توجد قصة أخرى تفيد بأن أول مصنع للورق بأوروبا أُسس بمدينة فيدالون الفرنسية سنة 1157 م، فتروي القصة أن شخصا يدعى جان مونغولفييه وقع أسيرا في يد المسلمين خلال الحملة الصليبية الثانية سنة 1147 م، فتم إجباره على العمل في مصنع للورق بدمشق، وهناك تعلم اسرار هذه الصناعة، فلما عاد إلى فرنسا أنشأ المصنع المذكور.
يقول المؤرخ الدانماركي يوهانز بيدرسن في "الكتاب العربي”: «صحيح أن الورق اخترع في الصين وليس في بلاد الإسلام، ولكن المسلمين استخدموا مواد جديدة سهلت تصنيعه على نطاق واسع، وابتكروا في ذالك أساليب حديثة أيضا، وبفعل ذلك؛ حقق المسلمون مأثرة ذات مغزى حاسم وأهمية كبرى، ليس لتاريخ الكتب الإسلامية فحسب، بل للعالم كله».
وفي الختام - يزخر تاريخنا بأسماء الآلاف من العلماء العرب والمسلمين وانجازاتهم وما قدموه للبشرية من اختراعات وابتكارات استفادت منها جميع العلوم والمعارف وبعضها لازال يستخدم حتى الآن، نستعرض لكم طوال أيام شهر رمضان المبارك في السلسلة "اكتشافات غيرت العالم" بعض الاختراعات والابتكارات التي قدمها علماء المسلمين فغيروا بها وجه الحياة على مر العصور.