أخطر ما يَعتري مسيرةَ حياةِ الإنسان أنْ يَعيشَ خارجَ حدود زمانه ومكانه، كأن يعيش بفكر ماضوي أو على فكرٍ مسقبلي يتمنى أن يكون. صحيح أن المستقبل مهم أن ننظر إليه ونتوق له بعيون الحاضر وخبرات وعصارة تجارب الماضي لكن يجب أن لا يُشغلنا عن زماننا الذي نعيش به وواقعنا المعاش الذي يجب أن نتفاعل معه لنرتقي بحياتنا ونعمل على تحسين أوضاعنا وتطوير مجتمعنا. إن مثل هذا الإنشغال قد يُفقدنا واقعية التفكير ولذة الحاضر وجماله وقيمته، لأننا نُلقي بظلال تفكيرنا على مستقبل نتمناه أن يكون، ومتجاهلين أن نجاح الحاضر يؤثر في صنع المستقبل الذي نرغب أن يكون لنا.
أما الماضي والذي ينعكس على حاضرنا ويَظهر في طريقة تفكيرنا وفي نمط حياتنا وثقافتنا وعاداتنا لا يجب أن يُغرقنا في حياة الماضي فننسى ضرورة النظر بواقعية إلى حاضرنا، لئلا نقع في شَرَكِ العيش خارج حدود الزمان والمكان. فهناك أموراً أزلية وحقائق إيمانية لا تتبدل ولا تتغير، ومع ذلك فأمور الحياة الكثيرة قابلة للتبدل والتغيير، وما كان يصلح في الماضي قد لا يصلح في عالم اليوم، ومن هنا نفهم قول الإمام علي رضي الله عنه "علموا أولادكم وبناتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، فأهم ما يجب أن نتمسك به هو التعليم والتعلم، وما يُحزننا اليوم أنه عندنا تعليم ولكن قد لا يكون عندنا تعلّم، فقد بيَّنت الدراسات أن منطقتنا لديها "فقر التعلّم" رغم حملة الشهادات الكثيرة في منطقنا، إذ نفتقد لكثير من المهارات. وقد عَرَّف البنك الدولي مفهوم فقر التعلم بأنه نسبة التلاميذ الذين عمرهم عشرة سنوات ولا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهمه فهماً صحيحا. ففي منطقتنا ورغم كثرة الموارد لدينا كالبترول وغيره ومنبع الأديان التوحيدية إلا أن هناك نسبة 59% ممن لديهم فقر تعلم، ويعود ذلك إلى أنَّ عقولنا لم تتعلم كيفية استخدام مَلَكَة العقل في أمور المعاملات في موازاة مفهومنا للعبادات المرتكزة على حقائق إيمانية لا يجوز الخوض فيها. فالعقل ضروري لتناولِ شؤون الحياة المختلفة في السياسة والإجتماع والإقتصاد، وخصوصا في ظل التقدم والتطور السريع العلمي والتكنلوجي.
فمن الضروري أن نعيشَ واقعَ حياتنا اليوم بالتفكير الجاد الذي يتناول كلَّ القضايا العصرية التي تحيط بنا، وكذلك العمل على إيجاد الحلول المناسبة دون التخلي عن المبادئ والأسس الروحية والإجتماعية والسياسية والتراث المستحب كما عبّر عن ذلك المرحوم بإذنه تعالى السياسي المخضرم د. كامل أبو جابر البدوي الأبيض، وذلك بإستخدام ملكة العقل والمنطق السليم في معالجة القضايا الحياتية في ظل التطور والتقدم الذي نعيش به اليوم وبأدوات العصر وليس بمجرد الإتكاء على ظروف الماضي، فما كان صالحاً في زمن معين وعصر معين قد لا يكون نافعاً اليوم، وقد لا يقدر أن يعالج قضايا حياتنا المعاصرة وقضايا المجتمع، وإلا نوصف حقاً بأننا نعيش خارج حدود الزمان والمكان.