تاريخيّاً ، هُزمت بريطانيا العُظمى في أفغانستان عام 1839م ، كما هُزِمَ الإتحاد السوفيتي عام 1989م ، اليوم تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الإحتلال ، تركت خلفها دولةً رخوة ، مؤسسات فاسدة ، جيش وأجهزة أمن فاشلة ، تَدَّعي أنّها حققت إنجازات كبيرة ، لكنها في الواقع إنجازاتٌ وهمية ، سرعان ما تحوّلت إلى هياكلَ عظميةٍ ، وجذوعَ نخلٍ خاويةٍ ، اختارت المغادرة من وكر الحرب القاسيةِ ، إلى مكر الحرب الباردة .
يبدو أنّ أسباب الإنسحاب بعضها واضحٌ ، والآخر ستكشف عنه نتائج المستقبل ، إتَّضَحَ أنَّ كُلفة الإحتلالِ باهظة ، (800-900مليار دولار) خلال العشرين عاماً ، بالإضافةِ إلى (2500قتيل) غير الجرحى والمصابين ، الصين وروسيا وإيران وباكستان ساهموا في رفعِ كلفة الإحتلال ، أصبحت أفغانستان مستنقع وبؤرة الجذب الذي استنزف الإمكانيات الأوروبية ، بالنهاية رأت الإستخبارات الأمريكية أنّه لا بدَّ من التموضع نحو الجيل الجديد من الحروب ، أمام شعبٍ عنيد ، يصعُب ترويضه ، واستحالة تحويل أفغانستان إلى دولة علمانية ، مهَّد ذلك لفشل المشروع الأوروبيّ .
اليوم ، تعود حركة طالبان ، التي عاشت بين الأودية والكهوف والجبال ، لحُكمِ أفغانستان من جديد ، بما تحملهُ من إرثٍ مُشبعٍ بالتشدد والتعصُّبِ والتزمُّت ، تأوي جميع المنظمات المتطرفة ، تزدهر تجارة الأفيون والحشيش والمخدرات ، تواجه تحدياتٍ كثيرة ، منها شكل النظام السياسي الجديد ، إمكانية التورُّط في الحرب الأهلية ، بناء مؤسسات الدولة ، إدارة الملف الإقتصادي ، تأمين الخدمات الضرورية للسكان ، إمكانية المصالحة الوطنية ، والتحدي الأكبر والأهمّ ، هل ستعود ملجأً للمنظمات الإرهابية ؟! وترفع معنويات المنظمات التي تحمل فكراً مؤيِّداً ، أو هل ستُشكِّل نموذجاً للتسامحِ الإنسانيِّ ؟! وبناء دولة حديثة تستوعب جميع الأعراق وجميع التيارات السياسية ، هذا ما سيكشفهُ المستقبل .
ما يستحقّ التوقف والتحليل واستخلاص العبر والدروس ، هذا الإنهيار المُعيب للجيش الأفغاني ، الذي يمتلك أحدث الأسلحة ، وأحدث المُعدّات والذخائر ، وأحدث وسائل الإتصالات ، وأحدث متطلبات الحماية الذاتية ، وهو أيضاً على درجة عالية من التدريب الإحترافي ، وذو إمكانيات كبيرة ، جيش وأجهزة أمن يبلغ تعدادها أكثر من (300ألف) ، تستسلم في وقتٍ قصير ، لا تُبدي أيَّ نوعٍ من المقاومة ، لا بل تتعاون مع حركة طالبان ، لتسهيل سيطرتها على مفاصل الدولة ، يبدو أنّ الروح المعنوية ، والعقيدة القتالية ، والمعتقدات الدينية ، والقيم الوطنية ، وراء هذا الإنهيار .