(بمناسبة اليوبيل الفضل لرسامتي قسيساً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية بتاريخ 6/9/1996 في زهرة المدائن القدس الشريف)
القس سامر ناصر عازر
"قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبياً للشعوب" (إر 4:1)
بكلِّ دواعي الفخر والإعتزاز مغلفةً برداء التواضع الذي علَّمنا إيَّاه ربَّنَا ومخلصنا يسوع المسيح أشكرُ الله تعالى الذي دعانِي لأنْ أكونَ أحدَ خدامِ العهد الجديد: خدمةُ الكلمة المقدسة وخدمةُ الأسرار المقدسة في كنيسة المسيح ورعايةَ الطائفة الإنجيلية اللوثرية في الأردن، التي أُوكلت إلي منذ عام 1996. وقبلتُ الدعوة بفرحٍ وكرَّستُ جُلَّ وقتي وجهدي لأجل نمو الطائفة اللوثرية في الأردن روحياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً ووطنياً، وهي التي رعيتُها وَرَعَتني، والتي علمّْتُها وعلَّمَتني والتي صقَلتُها وصقَلتنِي، وجَعَلَتْ منِّي رجلَ وطنٍ ورجلَ مجتمعٍ يحّبُ مجتمعَهُ وَيُراعيَ مصالحَ الوطن فوق أية مصالح وأجندات أخرى، ويخدمَ جميعَ الأردنيينِ وغير الأردنيين دون أدنى تمييز بين مسلمٍ أو مسيحيي، بل على العكس العملَ على تعزيزِ روحِ المواطنةِ وسيادةِ القانونِ التي هي أهم عناوين الأوراق النقاشية الملكية لصاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظّم والنهج الذي تُعززه مملكتنا الأردنية الهاشمية منذ المغفور له جلالة الملك عبد الله الأول طيب الله ثراه وحتى جلاله الملك عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه، فتوسَّعَت دائرة خدمتي الكنسية لتمتدَّ إلى خدمةِ المجتمع وجميعِ من كان بحاجةٍ إلى خدمتنا ومساعدتنا، فخدمتُ على العديد من المجالس كمدرسة ثيودور شنلر، ومجلس كنائس الشرق الأدنى/ لجنة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين، ودار الكتاب المقدس، والمجلس الكنسي (الهيئة التنفيذية) للكنيسة اللوثرية، وكذلك رئاسة المجمع ( الهيئة التشريعية) الكنسي للكنيسة اللوثرية في الأردن وفلسطين.
وانطلقنا بمبادراتنا التي رسَّخَت مفهومَ الرسالات السماوية بأنَّ الإنسانَ هو هدفُ وغايةُ خدمتِنَا مهما كان انتماؤه الديني أو توجُّهَهُ الفكري أو الأيديولوجي أو السياسي، فخدمنا المجتمع من خلال مبادرة إنسانية أسمياها "مبادرة معاً لأجل الخير" وطافت الأردن شمالاً وجنوباً وشرقا وغرباً وتمكننا أثناءها من توقيع مذكرة تفاهم مع وزارة التنمية الإجمتاعية للتعاون والتنسق المشترك، وامتدت خدماتها لتشمل حتى الأخوة العراقيين والسوريين والأقل حظاً في الوطن الحبيب. كذلك كان التعاون وثيق مع مسيرة تأسيس مكاتب الإتحاد اللوثري في العام 2013 في مباني الكنيسة اللوثرية في عمان لدعم مشاريع خدمة اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري.
كذلك تم تأسيس نشاط ايروبكس للسيدات ولعدة سنوات وكذلك مركز تدريب موسيقي على عدة آلات موسيقية، وتأسيس "نادي الخيمة" الإجتماعي الترفيهي للعائلات، وتأسيس فرقة كشافة الراعي الصالح، وعقد مؤتمرات شبيبية سنوية في العديد من المواقع، واقامة نشاطات وفعاليات روحية واجتماعية وترفيهية داخل المبنى وخارجة وعلى مدار الأعوام وفي شتى المناسبات وبمشاركة شريحة واسعة من أبناء المجتمعي.
هذا وقد تم في عهد خدمتنا مسيرة بناء وتأسيس وتدشين "كنيسة بيت عنيا عبر الأردن" في موقع عماد السيد المسيح / "المغطس" في العام 2014 حيث خَدَمْتُ على لجنة البناء المعينة من قبل المجلس الكنسي، وساهمنا برفد المكان بنشاطات وفعاليات أحْيَتْ المكان وجعلته ينبض بالحياة وخصوصاً بقداديس وزيارات ِأثناء احتفالات عيد الغطاس السنوي بشهر كانون الثاني من كل عام.
كذلك قمنا بتأسيس وإدارة مركزٍ ثقافيٍ أصبح من أهم المراكز الثقافية الخمسة المعتبرة في عمان وهو المركز المجتمعي المسكوني " الخيمة"، والذي نُحت اسمه ومضمونه بعناية ليكون ملتقى أصحاب الفكر والرأي والثقافي والفن والشعر والأدب والموسيقى، وقد حَصَدَ المركز في العام 2019 "جائزة البشارة"كأفضل مركز يعمل في مجال الحوار الديني والفكر والثقافة، وقد وَكُرّم المركز تحت رعاية معالي د. رجائي المعشر الأكرم. وكان للمركز الذي تأسس في العام 2007 دوراً في حوار الحياة وحوار المحبة والتقارب والأخوة الصادقة التي جمعت أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين بدون تكلُّف، حتى ترسخت قيم الأخوة الصادقة والعلاقات والصداقات والنشاطات والرحلات التثقيفية والإستكشافية لعدة أماكن في بلدنا الحبيب.
وقد نشأ عن هذا المركز الثقافي ما يسمى ب "صالون الأربعاء الثقافي" منذ أربعة سنوات لتدارس ومناقشة مواضيع الساعة التي تطرأ على عالمنا. علاوة على ذلك فقد تم تحويل قاعة المركز المجتمعي المسكوني " الخيمة" إلى متحف تراثي يضم بداخله قطع تراثية ومقتنيات تم التبرع لها للوقوف على عبق الماضي وتاريخ بلادنا العريق. كذلك تم تأسيس " ديوان الخيمة"، ليكون ديواناً لكافية المعايدات الدينية والوطنية.
وكنّا من الرياديين في تطبيق مبدأ الإستدامة وإيجاد مصدر دخل محلِّي للكنيسة في عمان ليكون قرارنا قراراً محلياً وطنياً أردنياً هاشمياً من خلال تطوير قاعة الكنيسة الرئيسية في العام 2003 ومن ثم العمل على توسعه بالحاقها بقاعة استقبال تم بناؤها بواجهة زجاجية مميزة وفوقها تراس أضاف جمالا نوعياً لمبنى الكنيسة ككل، فشكَّل هذا المشروع نقلةً نوعيةً في خدمة المجتمع المحلي وتوفير بيئة كنسية مُنَاسِبَةً لكافة المناسبات الروحية والإجتماعية والوطنية.
كذلك كنَّا من السبَّاقين في دعم المحافظة على البيئة والتوفير على الفاتورة الوطنية النفطية، فتم تأمين تبرع ودعم خارجي من الكنائس المشاركة لمشروع الطاقة الشمسية لكامل المبنى ومرافقه حتى أصحبت فاتورة المبنى شبه صفرية، فشكلنا نموذجاً يحتذى حذوه لكثير من دور العبادة. علاوةً على تأمين خط 3 فاز يُغطي كافة المشاريع المستقبلية التي ممكن أن تقام على أرض الكنيسة والبالغة بحدود 3 دونم في أم السماق الشمالي/ حي الصالحين/ شارع أمثاري النعيمات.
وكذلك كنّا من أوئل من قام ببث قداديس الآحاد عبر الفيس بوك واستخدام "الداتا شو" قبل أن يبادر إليها الكثيرون وكانت سبباً في إيصال الصوت المسيحي الأردني لكثيرين بنكهة وطنية أردنية داخل الوطن وخارج حدوده.
والأهم، أنّ الكنيسة اللوثرية في عمان احتلت مكانة واحترام وتقدير على كل الصُعد المجتمعية والمسكونية والوطنية، من خلال المشاركات في نشاطات وفعاليات وخدمات كافة الكنائس المسكونية في المملكة دون استثناء وتلبية كافة الدعوات لها، ومجتمعياً من خلال الإنخراط بكافة النشاطات المجتمعية والخيرية والخدماتية والثقافية، ووطنياً من خلال المشاركة في كافة فعاليات ومناسبات الوطن الرسمية والإعلامية والتلفزيونية والصحفية.
وفوق كل شيء، إنني أعتز أن خدمتي قد جعلتني صديقاً لكل الناس ومقدَّراً في نظر الكثيرين، وعلاقاتي وصداقاتي فاقت الوصف بروح نقية صافية وأخوَّة منقطعة النظير، وهذا ما جَعَلَني جزءً لا يتجزأ من مجتمعي الأردني الكريم الذي طَبعَ بصماته في قلبي، وجعل بيني وبينه حالة عشقٍ يصعب فصلُها ويصعُب التأثير عليها، فمحبتي للوطن الأردني لا تقل عن محبتي لفلسطين، ومحبتي لعمان لا تقل عن محبتي للقدس، وعِشتُ وسأعيش من أجل وحدة وتلاحم الشعبين الأردني والفلسطيني الشقيقين، الذَين يجمعها النهر المقدس ولا يفرّق بينهما، وكذلك من أجل الوئام الديني والأخوة الإسلامية-المسيحية المنقطعة النظير في الأردن.
وما اختبرته من رعاية واهتمام هاشمي على مدار الربع قرن سيبقى مبعث حبٍ وولاءٍ وانتماءٍ لمليكنا المفدى عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم وللهاشميين ولثرى الأردن الطهور بما يحمله من معاني الكرم والضيافة والشجاعة والنخوة والفزعة والصدق والإخلاص والوفاء.
أخيراً، في يوبيلي الفضي لرسامتي الكهنوتية (1996-2021( أتوجه بالشكر الجزيل إلى والدَي الكرام ناصر ونبيهه لما زرعاه بداخلي من إيمان واخلاص ومحبة، ولزوجتي المهندسة عبلة جميل علوش التي حبُّها وتضحيتُها فاقا كلَّ الوصف، ولأولادي ناصر ودانييل المبشِّرين بمستقبل باهر، وكذلك لكم جميعاً أبناء طائفتي اللوثرية في الأردن الأعزاء، ولجميع أعضاء ورواد المركز المجتمعي المسكوني " الخيمة"، وللشعب الأردني الكريم، وكذلك لكنيستي الإنجيلية اللوثرية التي مَهمَا قَسَتْ عَلينا سَتبقى الأمُ الرؤومُ والمُحبَّة التي نُحبّها وندافعُ عن تراثها وتاريخها ورسالتها.
فبدُونكم جميعاً أيُّها الأحَباء لَمَا كنْتُ ما أنا عليه الآن.. صلًوا لأجلنا أنْ لا نكّلَ في خِدْمَتِنَا حتى نُوفيَ الأمانة..
والذي ابتدأ فينا العمل الصالح سيكمّله إلى النهاية، آمين.