تقوم بعض استطلاعات مراكز الدراسات الاستراتيجية على ثنائية جدلية هما : الموضوعية واللاموضوعية .
فكان النُّقاد العرب القُدماء يتطارحون في النقد الموّجه للشعراء المشهورين في أسواق عكاظ والمرّبد وذي المجاز وذي المِجن وغيرها من الأسواق الأدبية ، وكان هؤلاء النُّقاد يُلحقون الظلم والتعسف والشطط في أحكامهم على أجود بيت شعري قيل -مثلاً - في الحكمة أو الغزل أو الرثاء أو الوصف أو المدح أو الهجاء وغيرها من أغراض قصيدة الشعر العربي القديم .
فكانت أحكامهم النقدية غير عادلة ؛ لأنهم لا يستندون إلى معايير وقواعد وضوابط نقدية ؛ لأنهم يعتمدون على الذائقة الشخصية والانطباع الشخصي والقراءة الجزئية للقصيدة ، ولا ينظروا إلى النص الشعري كلل ، وبوحدته العضوية والموضوعية ،إنما جزء من كل ، فكان حُكمهم المزاجي الهوائي قائم على الفطرة البشرية وانطباعاتها المسبقة الجائرة غير العادلة والمنصفة ، خصوصاً أنهم يحكمون على النص من خلال مطلعه أو استهلاله أو بيته الأول ولا يتعداه عن ذلك .
هكذا هو الظلم الذي لحق بالشعراء المبرّزين والمبدعين ؛لأن العدل يحتاج إلى قراءة النص كاملاً غير مجزوء أو مبتور .
هذا يكاد ينطبق على وسيلة مراكز الاستطلاعات والاستشارات والدراسات الاستراتيجية في العالم ، وهي اعتمادها على " الاستبانة " الورقية أو الإلكترونية ، ولا أعتقد أن الاستبانات قائمة على منهج أو قاعدة أو معيار صحيح ودقيق ؛ لأن المزاج غير المعياري هو من يتحكم بنتائجها واحصائياتها .
وكثيرٌ من هذه الدراسات الإحصائية من يوقع مجتمعاتها في شَرك وتضليل وتشكيك ولفت النظر عما هو أهم من نتائج هذه الاستطلاعات الفطرية الهوائية ، والتي تبث التشاؤم والسوداوية في مستقبل الأوطان والأجيال .
فكيف بمركز الدراسات الاستراتيجية واستشاراته، وهو وحدة أكاديمية ، يستطلع آراء عينة مجتمعية ربما تكون غير متخصصة في المجال المعرفي لسؤال الاستبانة ، وأين الغريب في الأمر ، إنه قبل الانتهاء من الإعلان الرسمي عن وثيقة التوصيات والمخرجات النهائية للجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية برئاسة دولة الأستاذ سمير الرفاعي ، فماذا يقصدون بذلك ؟
وفي تقديري الأكيد أن دولة الرفاعي مهمته ليست مستحيلة ، لأنه قادر على إقناع الناس بجدية الدولة العميقة في تحقيق مطامح الناس ومقاصدهم وتطلعاتهم وآمالهم من جهة ، وقادر على توفير حاضنة اجتماعية متكاملة تحمل اللجنة ومخرجاتها وتصوّراتها ونتائجها رغم الاستهدافات المتعمدة والتشكيك المقصود قصداً من جهة أخرى .
رُبّما يفصلنا عن صدور الوثيقة الرسمية بضعة أيام ، عندها سيطّلع عليها الشعب برمته ، ويُخضعها المهتمون والسياسيون إلى مجهر تحليلاتهم ودراساتهم واستطلاعاتهم واستشاراتهم ، على الرُّغم من أن دولة الرفاعي لم يبرح أية خطوة تصبُ في مصلحة الوطن والمواطنين إلا فعلها ، أما الحُكم المسبق ففي ظني أنه لا يبتعد عن صناعة الناقد العربي القديم -كما أسلفت آنفاً -عما كان يفعله .