تعتبر الأمانة من أهم القيم التي يجب أن يفعّلها الإنسان في حياته، فيكرسها بعلاقاته مع نفسه والآخرين. والأمانة ثقيلة على النفس، ليس من السهل النهوض بحملها ومسؤولياتها، وذلك تصديقا لقوله عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ? إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). فيكون الإنسان ظلوما جهولا عندما يحمل الأمانة ولا يرتقي بنفسه وضميره إلى مستواها، ولا يؤديها على وجهها الصحيح.
وتحظى قيمة الأمانة بأهمية خاصة في الوظيفة العامة، فالموظف وهو ابن الإدارة العامة، والمسند إليه القيام بواجبات ومهام الوظيفة العامة خدمة ً للمواطنين، يقع عليه بشكل مضاعف، عاتق حمل الأمانة واستشعار واجباتها ومقتضياتها أثناء تنفيذه مهامه الوظيفية.
وبهذا السياق، جعل نظام الخدمة المدنية بالمادة 67 عنوان القسم الوظيفي للموظف عند تعيينه بالوظيفة العامة القسم على العمل بأمانة وإخلاص. كما اعتبرت المادة 68 من نظام الخدمة المدنية الوظيفة العامة أنها مسؤولية وأمانة لخدمة المواطن والمجتمع، مؤكدة على الموظف الالتزام بأداء مهام وواجبات وظيفته بنشاط وأمانة ودقة.
وانطلاقا من أهمية الأمانة وأثرها الفعال في الوظيفة العامة، يجب على الموظف، في جميع تفاصيل وظيفته، أن يراعي مقتضيات الأمانة الوظيفية ويستشعر بكل لحظة أثر اليمين القانوني الذي أقسمه على أداء عمله بأمانة. فهذه مؤشرات جليّة أن الأمانة هي جوهر الوظيفة العامة وأساسها، وتتقدم على أي اعتبار سواها.
إذ ترتبط أوجه الأمانة الوظيفية، بطبيعة الوظيفة التي يقوم بها الموظف. ففي علاقات الموظف مع المراجعين، عليه تقديم الخدمة بالسرعة والكفاءة المناسبتين، وفق أفضل المعايير. وفيما يخص علاقة الموظف بالدائرة التي يعمل بها، يجب التزامه بأخلاقيات الوظيفة وآدابها، والالتزام بأوقات الدوام الرسمي والحفاظ على المال العام، وعدم ارتكاب أي فعل يسيء اليها أو يخدش كرامتها. وأما علاقة الموظف بزملائه، فتنطلق من الاحترام المتبادل بين الرؤساء والمرؤوسين والعمل بروح الفريق الواحد والتقيد بقواعد التسلسل الوظيفي، وإعطاء الموظفين حقوقهم وعدم الجور عليهم أو ظلمهم. فإذا تجردت هذه الالتزامات والواجبات من الأمانة في تنفيذها، فإنها تفقد المعنى الحقيقي من أهميتها ودورها في بناء الوظيفة العامة.
العبـرة من تأكيد المشرع في أكثر من موضع على الأمانة في الوظيفة العامة، أن الموظف بتنفيذه مهامه وواجباته الوظيفية لا يخضع بكثير من الأحيان للرقابة، ويتصدى لمقتضيات وظيفته من منطلقات ذاتية واعتبارات ضميرية، ويكون أحيانا هو الأدرى من غيره بطبيعة الأعمال التي ينفذها والأكثر تحسسا لميزان تنفيذها، مثل أن يكون مختصا باختصاص محدد مثل الطبيب أو القانوني أو الفني. بالتالي يكون المعيار الحاكم بالتزام الموظف بمهامه الوظيفية على الوجه الأمثل والضابط بالرقابة على مدى التزامه بذلك ضميره نفسه، بما يستشعره من معاني الأمانة وقيم أخلاقية ذاتيه، قد لا ترتبط بكثير من الأحيان بأوجه المساءلة القانونية.
الأمانة قيمة سامية، لا يجوز للإنسان بشكل عام، والموظف خصوصا، تجاوزها أو خرق حرمتها، مهما كان المبرر. فهي أنبل المنالات وأجمل المطالب، ومن لا يصونها فإنه ظلوما جهولا.