أشبه نتائج الانتخابات اللبنانية الأخيرة بزواج رجل متصابي نصاب مفلس بفتاة طامعة بثروته، والنتيجة حصاد الخيبة واحتدام المشاكل بين الطرفين بالحديد والنار لعدم توفر المال الذي يساعدهما على طرق أبواب المحاكم الشرعية.. أو تعرضهما لشراك الطامعين بما تبقى لديهما مقابل الدعم المالي وإنهاء الموقف قضائياً لصالح من يقدم تنازلات أكبر.
هذا ما يشهده لبنان في ظل الصراع الإقليمي ما بين محور المقاومة المدعوم إيرانياً، ومحور الاتفاقية الإبراهيمية المدعوم من قبل كل من السعودية والإمارات، فيما يدعي كل طرف تبنيه مصلحة لبنان.
وفي أتون المعركة البرلمانية في لبنان ما زالت إيران تدعم حزب الله القوي (27 مقعداً) بينما تخلت السعودية عن حليفها الضعيف سعد الحريري زعيم تيار المستقبل لتجد في سمير جعجع قائد القوات اللبنانية الخيار الأقوى (ارتفعت مقاعده البرلمانية من 15-19) الذي يستهدف سلاح حزب الله واضعاً اصبعه على الزناد منذ اتهامه من قبل حزب الله بمحاولة اشعال الفتنة والتسبب بانفجار مرفأ بيروت، والعودة إلى الحرب الأهلية من خلال افتعال حادثة اشتباكات الرمانة في بيروت، واستعداده لأية مواجهات قادمة إذا ما توافقت اجندته الخارجية مع الأمر.
ورغم ذلك فهذه النتائج لن تشفي الغليل لعدم قدرتها على تغيير الحقائق على الأرض بما يتناسب ومطالب الشعب اللبناني الإصلاحية والأحزاب التي ركبت موجته وصولاً إلى موسم القطاف السياسي الذي أزف وقته.
وتتلخص هذه المطالب بتوحيد السلاح بين أيدي القوى الشرعية وسحبه من حزب الله، وتركيز الجهود المتضافرة على تطوير النظام اللبناني وإصلاحه واجتثاث الفساد، وإصلاح القضاء، وتحديث البلاد، وبناء المؤسسات بعيداً عن المحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية والقبول بحكومة تكنقراط لحل مشاكل لبنان المستعصية.
أما عن أسباب الأزمة اللبنانية فيمكن إجمالها فيما يلي:
أولا:- الانقسامات السياسية وتهميش مصلحة لبنان في ظل الازمة اللبنانية المتفاقمة.
فقد اندلعت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة تزامناً مع بداية واحدة من أسوأ فترات الكساد الاقتصادي. بسبب الفساد المستشري في الدولة اللبنانية العميقة وتفشي جائحة فيروس كورونا، ناهيك عن تداعيات الانفجار المدمر الذي شهده ميناء بيروت عام 2020، الذي أودى بحياة ما يربو على 200 شخص، فضلاً عن تعثر التحقيقات بصفة مستمرة لتحديد المسؤول عن الانفجار، وإخفاق سياسيين في الإدلاء بشهادتهم.
وزاد الطين بلة فشل حكومة تصريف الأعمال في كل الاختبارات عقب تلك التفجيرات منذ اوغسطس 2021، وحتى الآن وتعطيل أعمال الحكومة وعجز البرلمان السابق عن إفراز حكومة فعلية بسبب المحاصصة السياسية. وترك المصالح الوطنية في مهب الريح، وبالتالي تأقلم تلك الحكومة مع حالة الغليان الشعبي بحقن الشارع بالوعود الكاذبة لتخدير الراي العام، دون خفض مستوى التوتر فعلياُ بتقديم الحلول الناجعة، على الأقل لإدخال الهواء إلى غرفة الإنعاش قبل التفكير بالخروج من عنق الزجاجة.
فقد أعلنت وزارة الداخلية اللبنانية النتائج الرسمية للانتخابات النيابية بنسبة مشاركة 41%، وهذا رقم متواضع نسبياُ لكنه يحقق النصاب القانوني. وأظهرت النتائج تقدماً واضحاً لحزب القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع، المدعوم سعودياً من 15- 19 مقعداً بعد امتناع سعد الحريري وتياره "المستقبل" عن المشاركة في الانتخابات، مقارنة مع غريمه في الأحزاب المسيحية، التيار الوطني الحر من قوى الثامن من آذار المدعوم إيرانياً، وهو ما اضعف حصة التيار الذي يضم حزب الله وحركة امل (حصلا على 27 مقعداً) وتيار المردة بالإضافة للتيار الوطني الحر.
وكان حزب الله يسيطر على سبعين مقعداً من إجمالي 128 في البرلمان المنتهية ولايته، ولم يتضح بعد العدد النهائي للمقاعد التي سيجمعها مع حلفائه من خلال استقطاب المستقلين لضيق مساحة التحرك (12 مقعداً)،
ما سيعرضهم للاستقطاب بين الكتل ولا استبعد تأسيسهم لكتلة نيابية ضاغطة ومؤثرة على موازين القرارات خارج اطار التيارين أعلاه، في بلد يقوم نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية والجهوية القائمة على التكتلات بين القوى في لبنان.
وقد يعتقد خصوم حزب الله بأن الأخير خسر خاصية الضغط البرلماني على القرار اللبناني، ليتحول مسار لبنان من موقع الرافض للتطبيع مع "إسرائيل" باتجاه القبول بالاتفاقية الإبراهيمية الأمر الذي سيضع الصراع بين الخصوم اللبنانيين على محك أزمة أكبر من سابقتها.
ثانياً:- ظاهرة الفقر الاجتماعية بسبب التضخم..
إن معدلات الفقر وفق «إسكوا» تزايدت بشكل كبير بين السكان البالغ عددهم 6.5 مليون نسمة إذ يصنف 80% منهم كفقراء. والموقف يتفاقم، بسبب التضخم الاقتصادي الذي يشهده لبنان، على نحو هبوط قيمة الليرة اللبنانية وانخفاض القوة الشرائية للعملة، فالراتب الشهري الذي كان يعادل في يوم من الأيام 100 دولار يساوي الآن 60 دولاراً، ناهيك عن الشلل الذي أصاب البنوك اللبنانية، وهذا بدوره انعكس على حياة المواطن بكل تفاصيلها. أيضاً استفحال أزمة الطاقة وارتفاع أسعار الوقود، وعدم انتظام إمدادات الوقود التي تستخدم في محطات الكهرباء ما أدّى إلى تذبذب وصول التيار الكهربائي إلى المواطنين يومياً.
لذلك أصبح لبنان بيئة طاردة للكفاءات ما أدى إلى هجرة اللبنانيين في موجة خروج جماعي هي الأكبر منذ الحرب الأهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ خوفاً على ما تبقى من مدخراتهم، وبالتالي حرمان لبنان من جهودهم التنموية وخاصة في القطاع الصحي.
وأحيلكم إلى ما قالته منظمة الصحة العالمية في أن أغلب المستشفيات تعمل بنصف طاقتها مع هجرة نحو %40 من الأطباء.
ثالثاً:- الازمة الاقتصادية الخانقة
تجدر الإشارة إلى انه في ظل الانكماش الاقتصادي الذي شهده لبنان، فقد بلغ الدَين الحكومي ما يعادل %495 من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 وفقاً لبعض التقديرات، حيث صنف البنك الدولي هذا الانهيار المالي بأنه من الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، مما رفع تكلفة كل شيء في الدولة المعتمدة اعتماداً قوياً على الواردات، مما كبدَّ النظام المالي اللبناني خسائر فادحة، بما يشمل نحو 44 مليار دولار في المصرف المركزي تتعلق بإخفاق الجهود الرامية لدعم العملة، وذلك وفقاً لبيانات حكومية في 2020.
وهذا المعدل هو بالتقريب مثلي حجم الناتج الاقتصادي. أما الخسائر الإجمالية التي تشمل تقليص القيمة الإسمية المتوقع للدَين السيادي.
كل تلك الأسباب مجتمعة أدت إلى تعطيل عجلة التنمية في كافة الصعد الأمر الذي من شأنه وضع العراقيل في طريق أية حكومة مقبلة.. والمخيف في الأمر أن ذلك من المحتمل أن يضع الحكومة في مواجهة خياريين أحلاهما مرُّ، فإما مواجهة تيار الثامن من آذار المدعوم إيرانياً في إطار اجندة المقاومة؛ وذلك لصالح الأجندة السعودية، التي بدورها لن تقدم الدعم المطلوب بالساهل، إلا وفق مبدأ العصا والجزرة، أو العودة بلبنان إلى مربع الاحتجاجات الشعبية، التي سوف تتفاقم وصولاً إلى جر البلاد نحو حرب أهلية (محتملة) يسعى إليها المتربصون بلبنان من أصحاب الأجندة "الإبراهيمية" المتصهينة.
فيكون لبنان" وكأنك يا زيد ما غزيت"! وكفى اللهُ لبنانَ شرَّ المتربصين.