كان ابن شهاب الزهري هو أوّل من دوّن الحديث، وتجدر الإشارة إلى أنّ المسلمين بداية قد اعتمدوا في حفظ السنة النبويّة الشريفة على حفظها في الصدور، وكتابتها في السطور، لكن الأمر في البداية كان يرتكز على الحفظ، ولا يخلو من الكتابة، ثمّ بعد ذلك ازدادت الأسباب التي دفعت إلى توثيقها كتابةً، ومن هذه الأسباب: اتّساع رقعة الدولة الإسلامية الناتج عن الفتوحات الإسلامية، وكثرة عدد الداخلين في الإسلام، وانتشار الصحابة في البلدان، وموت الكثير منهم، وتشتّت الذهن الذي دفع إلى تشتّت الحفظ، كما ظهر الكذب والوضع في السنّة النبوية، فتنبّه العلماء لذلك في القرن الأول من الهجرة في عهد الخليفة عمر بن عمر بن عبد العزيز، فقام الخليفة بتسليم مهمة التدوين إلى ابن شهاب الزهري، وجعل معه في هذه المهمة كافة علماء الأمّة وعمّالها في الأقاليم الإسلاميّة جميعها.
وكتب عمر بن عبد العزيز لهم قائلاً: "انظروا حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فاجمعوه"، وبناءً على ذلك قرّر المؤرخون واعتمدوا القول بأنّ أول من دوّن السنة النبوية هو: ابن شهاب الزهري، وهذا هو التدوين الرسمي والمعتمد في المصنفات الحديثية، أمّا الكتابة بشكل عام فقد ابتدأت في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-، ويعود سبب اختيار عمر لابن شهاب على وجه التحديد إلى شغف ابن شهاب بجمع الحديث النبوي، والذي دفعه إلى إتمام المهمة على أكمل وجه وتسليمها لعمر، ثم قام عمر بتوزيع نسخٍ منها على الأمصار، وقد كانت هذه الحركة الباب الذي فُتح أمام العلماء في القرون القادمة من أجل المزيد من التدوين، والحفظ، والنشر، فجاء بعد ذلك ابن إسحاق، ومالك، وحمّاد، ومعمّر، وعبد الرزاق، وغيرهم، حيث قاموا بتفريع الأبواب، واهتمّوا بجودة التأليف والترتيب.
مفهوم تدوين الحديث
يُطلق التدوين على الشيء الكبير والكثيف، والذي لا يساوي الكتابة في البساطة والصّغر، وإنّما التدوين أعمق، وأشمل، وأدقّ، وهو عبارة عن جمع الصحف بعضها إلى بعض لتُكَوِّن ما يُسمّى بالدّيوان، وعليه فإنّ التدوين يعمل على جمع الصحف المشتّتة دون ترتيب، ثمّ يأتي بعد ذلك التصنيف، فيرتّب ما دُوِّن في أبواب وفصول داخل المدوّنة، ومن التدوين أيضاً ما يكون من جمع الصحف في كتاب.
كتابة الحديث في عصر النبيّ والصحابة سمح رسول الله للصحابة -رضوان الله عليهم- بكتابة الحديث النبوي الشريف بشرط تمييزه عن القرآن الكريم، وقد جاء هذه السماح بالكتابة من أجل حفظها وإيصالها للغير، وكُتبت السنة حينذاك على ما توافر من أدوات الكتابة: كالأوراق، والجلود، والعظام، وغيرها، ومع ذلك بقي الاعتماد الأكبر على حفظها في الصدور، ولعلّ ما شجّع ذلك هو جواز روايتها بالمعنى، بخلاف القرآن الذي تركّزت جهود الكتابة عليه، وقد وردت العديد من الأحاديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- التي ينهى بها عن كتابة السنة، منها قوله: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، ومَن كَتَبَ عَنِّي غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وحَدِّثُوا عَنِّي، ولا حَرَجَ).
وكان ذلك في بداية الأمر، ثمّ بعد ذلك سمح رسول الله بالكتابة، فقد قال عبد الله بن عمرو: (كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُهُ ورسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟ فأَمسَكْتُ عن الكِتابِ، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ، فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ)، ومن الصحابة من كان يكتب ويدوّن الحديث ويبقيه لنفسه، مثل عبد الله بن عمرو الذي أسمى صحيفته بالصادقة، وعلي بن أبي طالب الذي كان لديه صحيفة تتضمن أحكام الزكاة، وصحيفة أخرى تتضمن أحكام الأسر والدية.
وامتنع الكثير من الصحابة عن الكتابة رغم سماح رسول الله لهم، واستمر هذا الامتناع حتى امتد إلى عصر الخلفاء الراشدين، وذلك حرصاً منهم على الحفاظ على القرآن وعدم اختلاطه بالسنّة، أمّا عمر بن الخطاب فكلّما فكّر بجمع السنّة عاد بفكرته وامتنع؛ خوفاً من إقبال المسلمين على السنّة وإهمالهم للقرآن، وكان في بعض الأحيان حينما يشعر بتمكّن المسلمين من القرآن يكتب شيئاً من السنة ويرسلها إلى عمّاله، وكان أيضاً عبد الله بن مسعود يكره كتابة حديث رسول الله، ويقول: "القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بما سواه"، فقد كان خوف ابن مسعود كذلك الأمر أن ينشغل الناس بكتابة السنة عن القرآن، لكن وبعد أن حَفِظ القرآن وأَمِن ذلك كَتَب السنة، وكذلك غيره مثل علي، وزيد، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن جُمع القرآن، فضمنوا حفظه، ثمّ توجّهوا للسنّة النبوية الشريفة فكتبوها ودوّنوها.