التعديل الذي أجراه دولة الدكتور بشر الخصاونة كان إيجابياً ومهماً، وتنبع أهميته من حديثه أمام مجلس الوزراء في جلسته الأولى بعد التعديل حول ضرورة الانتقال الوطني الواعي من حكومة المهام إلى حكومة استراتيجيات تنفيذ مسارات التحديث الثلاثة ترسيخاً لمضامين التحديث التي جاءت استجابة لتوجيهات جلالة الملك -حفظه الله-، والتعديل تجديد ضروري لدماء فريقه الوزاري الذي يواجه مهمات، وتحديات وطنية صعبة تتمثل في تحديات الاستجابة لمطالب المواطنين في تخفيف وطأة الفقر، والبطالة والولوج لمرحلة جديدة وجادّة تفتح آفاق الاستثمار بشجاعة، ووعي، ورباطة جأش.
ميزة الخصاونة تكمن في سيرته النظيفة، وسلوكه الوطني المحافظ الذي يعكس مزاج الأردنيين في الرؤى والأهداف، وقدرته الكبيرة على ضبط إيقاع حكومته، ومراقبة أعمالها بحزم، وشجاعته ومبادرته الدؤوبة في اتخاذ القرار عندما يكون ذلك ضرورياً، والأهم من ذلك إدراكه لمخاطر التباطؤ في قراءة التوجيهات الملكية الحصيفة والتي فشلت - للأسف - كثير من الحكومات بالتقاطها في وقتها الصحيح بعيداً عن فلسفة شراء الوقت، وترحيل الأزمات بالهروب إلى الأمام والتي تنتهي عادة باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة.
في ظل غياب الحكومات الحزبية من أبسط حقوق الرئيس أن يختار فريقه الوزاري كما شاء، وأن يشرك في حكومته من يتوسم فيهم القدرة على تنفيذ مهام التكليف، بعيداً عن انعكاسات المزاج العام وضغوطه في فرض المحاصصة المقيتة، والذي بات يرفض كل شيء، ويعترض على أي قرار أو سياسة أو مهمة. والأهم من ذلك يكمن أن الحكومات في كل الدنيا هي حكومات أغلبية سواء كانت حكومات حزبية، أو "تكنوقراط"، أو حكومات محاصصة اجتماعية وعرقية ومناطقية؛ مما يستدعي معه تفهم قرارات التعديل والتشكيل بعيداً عن طموحات النخب المعترضة دوماً، وأهدافها ورغائبها.
حكومة الخصاونة حكومة منضبطة، وعاقلة، ومتعاونة مع البرلمان بشقيه الأعيان والنواب، واستجابت كثيراً لمطالبهم في تعديل الكثير من التشريعات بصورة جوهرية رغم قدرتها الواقعية على المناورة، بل أكثر من ذلك فقد اتخذت مواقف تجاه نصرة القضية الفلسطينية بشكل جريء وغير مسبوق تحت قبة البرلمان وخارجها.
وبعيداً عن الضرورات السياسية لتمثيل القوميات والطوائف فإن الهويات الفرعية قد شوهت توحدنا الوطني، وعبثت في مزاجنا العام بصورة لا تليق؛ فالوطنية التي يعبث بها مزاجية طامح أو طامع، وأنانية متربص لا تبني وطن، ولا تصنع قادة، والأوطان التي تختصر مهماتها الوطنية في إشغال المواقع هي مستودعات للفشل والنكوص، والمنطق الذي يتوجب أن يسود في هذه الحالة هو ضمير الرئيس، وإرادة جلالة الملك وعدم معارضة مجلس النواب.
في فهمنا الوطني لتشكيل الحكومات الأردنية ثمَّة متطلب سياسي وطني راسخ وفاعل؛ يتمثل في الحضور الوازن لإربد والبلقاء والكرك في المشهد الوطني عند تشكيل اي حكومة او إنجاز اي مهم وطنية مصيرية، اما باقي المحافظات والفئات روافد مهمة قد تغيب وتحضر وفقاً لطبيعة الظرف السياسي والاقتصادي الذي يرافق تشكيل الحكومات وظروفها وضوابط مصالح الوطن العليا.
إربد حارسة الهوية الوطنية وزرد الظهر فيها، سنابل القمح، وحداء الحصّادين، ووصايا عرار التي لا تصدأ، والروائح الزكية لدماء الشهداء التي لا تهدأ، والبلقاء بسلطها وعمونها وسوار المعصم الذي يحوم حولها حبّاً للوطن وكرامة أهله، وحمىٍ هاشميٍ منيع يبث النبل الوطني في كل جنبات الوطن، البلقاء حاضرة العلم والتجارة والعناد الإيجابي المتين، والكرك بوابة الديمقراطية ومعين البناة الاوائل و"خشم العقاب" التي لا غنى عنها ولا شموخ بدونها.
في كل ما قلنا لا ننتقص من أدوار معان الأبية، والمفرق العذية، ومأدبا النقية، وعجلون الوفية، وجرش السخية، والطفيلة الندية، ومدينة الجند، وثغر الوطن الباسم، وباديته العصية على كل تخاذل أو نكران، أقول كل هذا لا ينتقص من أدوار هؤلاء في البناء الوطني ونحن منهم، ولكنها قراءة سياسية أمينة تنطلق من هدف واحد وهو كيف نحافظ على وطننا من الخلاف والتشظي والانقسام.
حكومة الخصاونة لها لون وطني يشبهنا ونأنس به، ولا نشعر بغربة مع أي وزير بها، وكلهم أكلوا بطريقة أو بأخرى من خبز الصاج، والوزراء الذين دخلوا الحكومة كفاءات وطنية حقيقية. فمثلاً اختيار ماهر أبو السمن كشخصية سياسية كفؤة ومهمة في حاضرة البلقاء تم اختيارها بعناية وذكاء أفهمه وأتفهمه بغبطة، ونمروقة تتمتع بمهنية عالية واحتراف في صياغة التشريعات، والسقاف شخصية مستقلة وتدافع عن قناعاتها بشجاعة وحرص نجحت في صيانة وحماية استثمارات الضمان من العبث، ومحافظة رجل يتمتع بمهنية وانضباط وتفان ومتجاوز صادق لشهوة السلطة، وسطوة المواقع ويمارس دور الجندي المخلص أينما كان، وطوقان لم ألتقِها ولكنها ابنة التخطيط، وقارئة واعية لمضامين النطق السامي وستكون إضافة مهمة لغايات تنفيذ مسار التحديث الاقتصادي.
لا يجوز للأردني الحُرّ أن يبقى تائهاً بين التمثيل المناطقي الناشئ عن الهويات الفرعية من جهة، والمشاركة الوطنية التي تحلّق صوب خدمة كل شبر في الوطن وأهله من جهة أخرى، وبين هذه وتلك مساحات يكون الخيار فيها بحجم الشرف، وما أجمل أن نكون لكل الأردن كما هو في فينا؛ كي نكون في ذروة الأخلاق الوطنية ولكنهم يستعجلون.
في كل الدول التي تعتمد أسلوب المحاصصة ثمَّة حضور للأصوات العالية، ولكن تلك الأساليب هي مسامير مسمومة تُدق مرة تلو أخرى في نعش الوفاق الوطني، وفي هذا خيانة للوطن، والتراب، وتضحيات الشهداء. أصوات النشاز، ودعاة الفرقة، ورواد السفارات، وتجار الوقيعة الوطنية، وأصحاب الأجندات الفردية المقيتة، والمؤمنين بإضعاف الدولة والنيل من هيبتها ووقارها هم أعداء الداخل آن أوان لفظهم واجتثاثهم دون تردد، والمشهد الإقليمي ينذر بالقلق.
الهدف الوطني المأمول في المرحلة القادمة هو الولوج الجاد في الإصلاح السياسي؛ للوصول للحكومات الحزبية، وتعزيز البيئة الاستثمارية؛ لتخفيف الوطأة الثقيلة على الناس، وإصلاح القطاع العام، وفي مقدمتها قطاع التعليم، والصحة، والبلديات، والأشغال، وعلينا واجب إسناد الحكومة في مهمتها؛ كي لا نضطر إلى اجترار مرّ التجربة مرة تلو أخرى.
وحمى الله وطننا الحبيب وشعبنا الأصيل وقيادتنا الحكيمة من كل سوء، اللهم آمين.