قبل أيام فقدت قرية الدوايمة أحد رجال الظل من ابنائها البررة، ممن أَنِفُوا التنطّعَ الأجوفَ والسعي وراء الجاه الفارغ وتصدر الصفوف في المناسبات دون أن يزيد ذلك من مكانتهم شيئاً.. المناضل الذي قام بواجبه النضالي دون ضوضاء.. الرجل الصالح الحاج "محمود إسماعيل السباتين" الذي وافته المنية في 13 فبراير 2023، وكما قال النائب الأسبق عبد المجيد الأقطش في معرض تابينه موجهاً حديثه إلى الجموع الغفيرة في بيت العزاء الذي أقيم في جمعية الدوايمة بجبل الزهور:
لقد فقدنا من ناضل وعرّض حياته للأخطار منذ كان فتياً تباغته كوابيس الاحتلال الجائر الذي ما لبث رابضاً على صدورنا باحتلاله الغاشم لفلسطين السليبة.. وهي رواية ضمنها الأقطش في معرض حديثه عن خصائل المرحوم إلى جموع المعزين في جمعية الدوايمة بجبل الزهور منوهاً إلى أن المرحوم كان مناضلاً في سبيل قضيته فقاوم الاحتلال نوعياً بمبادرة شخصية مع بعض رفاقه من أبناء قرية الدوايمة وهم ( المرحوم: خليل هديب أبو إبراهيم، الحاج أبو زيد هديب، الحاج طميزي من إذنه الخليل، مصطفى ابو خضرة والشهيد الأقطش) وكانوا يفككون الألغام التي دأبت العصابات الصهيونية على زرعها في بعض المواقع حماية لمستعمراتها فيعيدون زرعها في الطرق التي تسلكها ناقلات الجنود الإسرائيليين، ويخفون بعضها في بئر تابعة للعائلة، وذلك ثاراً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية التي اقترفت المذابح بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، ومنها مذبحة الدوايمة (بلدة المرحوم سباتين) وصولاً إلى استشهاد والده ( جدي) رحمهما الله وهو يتوضا بمياه إحدى الجداول فبوغت برصاصة غادرة أزهقت روحه الطاهرة فارتقت إلى السماء.
ولخطورة هذا النشاط على هؤلاء الشرفاء، انفجر أحد هذه الالغام بأحد أفراد هذه المجموعة وهو من عشيرة الاقطش، أثناء تفكيكه له فارتقى شهيداً..
وبعد مذبحة الدوايمة خلال نكبة فلسطين هُجِّرَ والدي إلى مخيم عين السلطان في أريحا ثم هجرته الظروف الصعبة بالمخيم الى الأردن آملاً العودة إلى ديارنا السليبة، وظل يوقد فينا شعلة المقاومة حتى حفظنا الدرس وصار كلامه نبراساً لنا وشغلنا الشاغل.
وها هي الرسالة تصل أحفاده.. فماذا قال سري بكر السباتين في رثاء جده الذي طوى الغياب جسده الطاهر فيما ظلت مشاعله قائمة مضاءة وخيوله مُسَرَّجَةٌ صاهلة في وجه الريح من خلال أبنائه وأحفاده البررة:
"لا أجد كلمات أرثي بها جدي في مثواه الأخير أنسب من كلمات وليد سيف في افتتاحية مسلسل (التغريبة الفلسطينية)! فكأنها تصفه وصفاً دقيقاً بكلماتٍ تنصفه! فمن يعرفُه وجالَسه وجاوره يعلم ما اقصده..
وها هي بِتَصَرُف:
رحل الرجل الكبير، وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، جدي محمود، أبو بكر، لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريباً يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواه المسنيين، أولئك الذي عرفوه أيام شبابه جواداً برياً لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبء الذاكرة؟، ومن يكتب سيرة من لاسير لهم فى بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم فى جسوم الناس، وخلفوا آثاراً عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لا تدل عليها.
فجدي (محمود اسماعيل السباتين) المقاوم والمُهجَّر قسراً من أرضه في قرية الدوايمة (29 اكتوبر 1948)! بعد مذبحة دامت أيام! استشهد خلالها ما يقارب ال 700! فلسطيني من أبناء القرية المنكوبة والذي وافته المنية في (13 شباط 2023) وهو على أمل العودة! لم تغب عنه ملامح القرية، وحياتها كان دائم الذكر لها! فيليق به وصف (الشهيد)!
لا أكتفي بوصفه ايضاً بالجد الحنون، الذكي، الكريم، التَّقِيُّ وصاحبُ الذكر الطيب! بل هو يستحق أن نصفه ب(المقاوم)، صاحب القضية والرسالة التي نقلها إلينا نحن الأحفاد! فوالله لن نتلخى ما حيينا عن التزامنا بقضيتنا التي اورثنا إياها جدي الكبير!
هذا هو جدي، الذي لم يجد سوى الحلم بالعودة والتعب والركض نحو لقمة عيش صعبة والتربية الصالحة، لكن أسمه بقي شاهداً عليه، ومثله مثل جيله الذي لم يرجع للبلاد التي يحب، فمات لاجئاً، ولم يدفن في الأرض التي دافع عنها.. مات في جبل النظيف، بيته الشاهد الباقي على الحكاية!
رحمة الله عليك يا جدي... فهذه الصورة والكلمات للذاكرة!"
واثني على ما قاله الحفيد معلناً عن رحيل أحد رجالات الظل من جيل النكبة ممن قاوما بصمت وحافظوا على ثباتهم الوطني بتواضع جم بعيداً عن
التنطع الأجوف الفارغ معززاً رسالة المقاومة في ابنائه واحفاده.. رحمه الله واسكنه فسيح جناته.