رهاب روسيا الذي تمكن من الأوكرانيين ودفع برئيسهم زيلينسكي -ضيق الأفق- ليجرَّ البلادَ إلى الدمار سواء في البنى التحتية أو التفريغ الديمغرافي إلى جانب خسارة مناطق شاسعة شرق اوكرانيا (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية) التي ضمها بوتين إلى روسيا نهاية العام الماضي.
هذا الرهاب الذي يصيب العقول بالعمى يبدو أنه يداهم الآن جمهورية مولدوفا، التي تقع شرق أوروبا بين أوكرانيا ورومانيا.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم أهالي مولدوفا من أصول غير سلافية، ما عدا شريط ترانسنيستريا الواقع شرق نهر دنيستر والذي يحكمه عسكر روس في إطار قوات حفظ السلام تحت قيادة الأمم المتحدة سوى أن وجود تلك القوات يعد بمثابة صمام الأمان للمطالبين بالانضمام إلى روسيا.
وهذا يفسر ما تبذره رئيسة مولدوفا مايا ساندو من أسباب لمواجهات تصعيدية محتملة خاسرة مع روسيا في ظل المطالبة بالانضمام إلى الناتو والطلب من الأمم المتحدة رسمياً بخروج قوات حفظ السلام الروسية من إقليم ترانسنيستريا وهو ذات السيناريو الذي ورط أوكرانيا في حرب ضروس مع روسيا لا تبقي ولا تذر.
فرأس الحكمة يكمن في أنه من لا يتعلم من الدروس والعبر، تداهمه الكوارث دون أن يستعد لمواجهتها.. فالنموذج الأوكراني خير مثال على ذلك.
لقد مضى على تداعيات الحرب الأوكرانية عاماً كاملاً حيث يصادف يوم الجمعة 24 فبراير 2023 ذكرى دخول القوات الروسية شرق أوكرانيا بذريعة أن النازيين الجدد (اليمين المتطرف) قد أمعنوا في التنكيل بذوي الأصول الروسية في إقليم الدونباس (جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية) التي كانت خاضعة لسيطرة المجموعات الانفصالية في سياق الحرب الروسية الأوكرانية قبل ان تتحول إلى ميدان حرب مفتوحة بين الروس والأوكرانيين.. بالإضافة إلى رفض أوروبا مناقشة الأمن الأوروبي الشامل مع روسيا، ورغبة فلادمير زلينسكي الجامحة للانضمام إلى الناتو، وبالتالي تحويل البلاد إلى قاعدة عسكرية ما كان من شانه لو تحقق وفق رغبة زيلينسكي، أن يشكل خطراً داهماً في وجه الاتحاد الروسي.
وهنا يكمن الشبه بين السيناريو الأوكراني والمالدوفي ما لم يتدارك القادة المالدوفيين الأمر فيجنحوا إلى المفاوضات دون التاثر بتحريضات زلينسكي الذي يُعَدُّ مسؤولاً عن جرِّ بلاده إلى الخراب.. بتحريض أمريكي وصل ألى حدِّ قيام بايدن بزيارة كييف مؤخراً وإطلاق وعود قطعها على نفسه، بتقديم دعم لأوكرانيا بقيمة 500 مليون من الأسلحة والذخائر التي نَفَدَتْ من مستودعات الناتو بينما عجز حلفاء أوكرانيا عن تعوضها وتصنيع الكمية التي تستهلكها أوكرانيا (60 الف قذيفة يومياً) خلافاُ لقدرة الروس المذهلة في ذلك.. ناهيك عن تأخر وصول دبابات ليوبارد الالمانية إلى جبهات القتال وتقاعس الحلفاء في إرسالها وفق تصريح وزير دفاع المانيا بوريس بيستوريوس.
الآن يمارس زلينسكي -ربما بمشورة غربية- دوراً تحريضياً على ملدوفا بالنيابة عن الناتو دون تقديم ضمانات.
بحيث لا يُعْرَفُ على ماذا يراهن هذا الرئيس الذي أدّى تعنته إلى تدمير بلاده فيما يستغله الغرب بما فيه أمريكا لاستنزاف روسيا وتفكيكها وقد باءوا جميعاً بالفشل الذريع.
ولكن رهاب روسيا بات يسيطر على قادة ملدوفا وبوجود من يصب الزيت على النار مثل "الدمية الغربية" زيلينسكي؛ فإن انبعاث صراع روسي مالدوفي وارد تماماً.
والسؤال الذي يطرح نفسه:
هل يمثل الناتو الضمان المحتمل لمالدوفا التي لم تُقْبَلْ بعد في الحلف الغربي، ما سيجعلها لقمة سائغة في فم الدب الروسي لو حصل صراع على إقليم ترانسنيستريا !
فقد عرضت رئيسة مولدوفا مايا ساندو - يوم أمس الثلاثاء- مخططات قالت إن روسيا تحاول تنفيذها في العاصمة المالدوفية كيشنيف؛ لقلب نظام الحكم الدستوري المؤيد لأوروبا الغربية واستبداله بنظام مؤيد لروسيا اعتماداً على عملاء روسيا مثل حزب "الثري إيلان سور" المؤيد لروسيا والفار من البلاد، فضلاً عن مواطنين روس وبيلاروس وصرب ومن الجبل الأسود.، وذلك من خلال خفض موسكو إمداداتها من الغاز إلى النصف، وتنفيذ هجمات عنيفة واحتجاز رهائن، بغية زعزعة استقرار مالدوفا البالغ عدد سكانها نحو 2.6 مليون نسمة والواقعة بين رومانيا وأوكرانيا.
وتواجه مولدوفا كذلك تهديدات من الجيش الروسي الذي يستحوذ على مخزون ذخائر روسي كبير في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية الموالية للروس؛ لذلك طالب رئيس وزراء مالدوفا بداية بنزع السلاح أممياً من هذا الإقليم حتى لا يتحول إلى بؤرة صراع .
وفي إجراءات احترازية، أعلنت ساندو تعزيز الإجراءات الأمنية وهو تصعيد غير مبرر لكنه خطير جداً بالنسبة لروسيا.
من جهته الرئيس الأوكراني زيلينسكي ومن باب الصيد في المياه العكرة، تحدث عن هذه المخططات التي رصدتها المخابرات الأوكرانية الأسبوع الماضي في بروكسل إبّان جولته الأوروبية، وربما يكون هذا هو الطعم الذي يقدمه زيلينسكي إلى مالدوفا بالنيابة عن الناتو.
فهل يكتمل فخ الإيقاع بمالدوفا في مواجهة خاسرة مع روسيا! لضرب روسيا في الخاصرة وإنهاكها وتشتيت قوتها! فكل شيء وارد حينما يعربد الشيطان في التفاصل.
الكرملين من جهته صرح بأن العلاقات مع ملدوفا غير مستقرة، وأنها تفعل كل ما يتعارض ومصالح روسيا، وطالبها بتوخي الحذر فيما يتعلق بقوات حفظ السلام الروسية في إقليم ترانسنستيريا.
وهذا يذكرنا بما جرى في إقليم دومباس الأوكراني قبل عام.
ويبدو ان زلينسكي يدفع الأمور إلى التصعيد بين ملدوفا وروسيا ويا ويلُ من لا يتعظ من الدروس والعبر.
فمنذ عام والحرب الأوكرانية مشتعلة، والنتيجة أن من حرض زلينسكي على التصعيد مع روسيا وَرَفْض الجلوس إلى طاولة المفاوضات، كانت الدول المنضوية في حلف الناتو التي قدمت للأوكرانيين دعماً مفتوحاً على كافة الصعد الاقتصادية والإعلامية والعسكرية؛ ولأجل أوكرانيا حاصرت روسيا واخرجتها من نظام سويفت، ووضعت سقفاً لأسعار الطاقة، وحاولت ضرب الروبل وحشر روسيا في الزاوية لتنكفئ على نفسها، فإذ بالسحر ينقلب على الساحر؛ لتمتصَّ روسيا الصدمة فوجدت الأسواق البديلة في شرق آسيا، وتمكنت بحرفية استثنائية من دعم استقرار الروبل وبالتالي مقارعة الدولار باعتماد سلة العملات المحلية في عقود بيع الطاقة خلافاً لما هو سائد في سوق الطاقة (النفط والغاز)، لا بل أن روسيا تمكنت من تعويض النقص في السلاح والذخيرة بتشغيل مصانعها 24 ساعة وباقصى طاقاتها، واستدعت جنود الاحتياط لتحصين خطوط المواجهة.
وها هو الجيش الروسي على طول الجبهات يتقدم وقد اوشك على استعادة باخموت التي توقعت قوات فاغنر "استردادها" بعد ايام في حرب شوارع أربكت الجيش الأوكراني، حيث استنزفت خيرة المقاتلين الأوكرانيين بعد أن خسر الجيش الأوكراني المحاصر خطوط إمداداته ومخازن اسلحته بفعل القصف الروسي المكثف والدقيق.
لا بل أن روسيا انفتحت على العالم في سياق تحالف عسكري مع الصين وكوريا الشمالية وايران، فيما حافظت على موقعها ضمن مجموعة بريكس التي تضم الصين والهند والبرازيل إضافة إلى جنوب أفريقيا التي تشترك مع روسيا والصين في مناورات عسكرية بحرية قبالة دوربان التابعة لجنوب افريقيا على المحيط الهندي.
إذن ما الذي يجول في خاطر زيلينسكي من أهداف استراتيجية يبتغي تحقيقها كما يتوهم نيابة عن الناتو وفق ما تردد على لسانه في أكثر من مناسبة؟
الأول: طرد الروس من الأراضي التي "تحتلها" بما فيها جزيرة القرم.
الثاني: الدفاع عن أوروبا وقيمها الاجتماعية الحداثية.
الثالث: تحريض ملدوفا على التصعيد مع روسيا، وسعيها أممياً لسحب الشرعية الدولية عن قوات حفظ السلام الروسية كما اسلفنا؛ تهيئة لطردها من إقليم ترانسنيستريا المختلف عليه، واعتبارها قوات احتلال غير شرعية. فيما وعد زيلينسكي بتقديم الدعم اللوجستي اللازم وكأن فاقد الشيء يعطيه! والناتو لن يتخلى عن مالدوفا رغم أنها خارج حلف الناتو كما هو موقفه من أوكرانيا.
وفي المحصلة يبقى السؤال الأهم منتصباً حول قدرة الغرب على تحمل اعباء جديدة فيما لو تمكن زيلينسكي من إشعال الفتنة بين روسيا ومالدوفا!
وكأن ارتدادات الحرب الأوكرانية لم تُصِبْ اقتصاد دول حلف الناتو بأضرار كارثية ربما كان أخطرها التضخم الاقتصادي ونفاد الذخيرة وعدم القدرة على تعويضها وعجز المصانع الأوروبية عن توفير ما تستهلكه أوكرانيا يومياً من قذائف المدفعية، ليتحول الدعم إلى مجرد وعود جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.