مادبا، مدينة الفسيفساء، تحوي في داخل كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس أقدم خارطة للأراضي المقدسة الممتدة شمالاً من جنوب لبنان مروراً بسوريا والأردن وفلسطين وحتى دلتنا النيل، وغرباً من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى عمق الصحراء حيث يظهر عليها بوضوح مدينة كيرياكوبوليس "الكرك"، وعليها يظهر أيضاً مائة وخمسون موقعاً مقدساً مذكورين في الكتاب المقدس.
لقد كان لإعادة إكتشاف هذه الخارطة من قبل عالم الآثار القادم من القدس إلى مادبا في العام 1897 دوراً جوهرياً في الإستدلال بالإضافة إلى مصادر أخرى هامة كالكتاب المقدس وأقوال الحجاج والرحالة والمكتشفات الأثرية، على موقع المغطس التاريخي لعماد السيد المسيح "بيت عنيا عبر الأردن" (يو 28:1)، وتل مار إلياس حيث صعد إلى السماء بمركبة وخيل من نار، وبرية يوحنا المعمدان حيث كان يوحنا يعمد في "عين نون" (يو 23:3) وخرج كثيرون من كل النواحي المحيطة بنهر الأردن واعتمدوا منه.
في شرحه عن أهمية الخارطة التي يعود تاريخها إلى العصر البيزنطي في القرن السادس الميلادي وبالتحديد في العام 562 يشير الأب المرحوم ميشيل بيتشريلو عالم الآثار إلى تربّع القدس وسط الخارطة الفسيفسائية المادابوية النادرة حيث يظهر بوضوح سور القدس الكبير الذي يحيط بها من كل جانب، وقد رافق الأب بيتشريلوا صاحبَ السمو الملكي الأمير غازي حفظه الله ورعاه إلى موقع المغطس الحالي حيث تبين أهمية المكان وضرورة التنقيب عنه فوراً بعد إزالة آلاف الألغام المزروعة في المنطقة الحدودية. وكانت وصية الأب بيتشريلو أن يُدفن على سفوح جبل نبو فكان له ذلك في الأول من أيلول لعام 2008، إذ بعدما توفاه الله وهو في ليفورنو في إيطاليا أقلته طائرة خاصة بتوجيهات المغفور له جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه إلى الأردن ليوارى جسده في ثرى الأردن الطهور الذي أحبه وعشق تربى وآثر أن يدفن تحت ترابه.
لماذا القدس تتربع في وسط هذه اللوحة الفسيفسائية الضخمة؟ هذا ليس من باب الصدفة بل لأنَّ القدس تحتل المكانة الأولى في العقيدة المسيحية واللاهوت المسيحي، فهي أرض القيامة المجيدة حيث القبر الفارغ وحيث إنتصار السيد المسيح على قوى الموت والشيطان والفساد وفتح أبواب الحياة الأبدية لمن يعيش حياة البر والتقوى والقداسة في خطى السيد المسيح. فالقدس كما هي للمسلمين أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، هي قبلة المسيحيين الأولى والأخيرة لأنه بدون قيامة المسيح لا حياة ولا رجاء ولا سلام، فقد حققت قيامة المسيح حجرَ الأساس في الإيمان المسيحي، وجعلتَ قلوبَ كلِّ المُعمّدين بالماء والروح القدس كما تنبأ يوحنا المعمدان في بيت عنيا عبر الأردن بأن المسيح هو حملُ الله الذي يرفع خطية العالم، تتجهَ صوب مدينة الخلاص والفداء.
وفي معرض إستقبال صاحب الجلالة الهاشمية يوم الأحد 2023/4/2 رؤساء الكنائس في الأردن والقدس وشخصيات مسيحية أردنية وممثلي أوقاف وهيئات مقدسية إسلامية أكد على حق كنائس القدس في الحفاظ على مقدساتهم وممتلكاتهم وممارسة شعائرهم بحرية ودورهم القوي، وبأنَّ دفاعه عن حقوق المسلمين والمسيحيين في القدس واجب وإرث هاشمي.