رواية تنتمي إلى جنس روايات الرِّحلات المليئة بالمغامرات، ذات النَّزعة التَّاريخانيَّة الفلسفيَّة الطَّابع، برؤية أدبيَّة ومنهجيَّة وصفيَّة لا تأريخيَّة تسجيليَّة، تتشابه مع التَّاريخ، وتتقاطع مع كثير من أحداثه، وتوثِّق كثيرًا ممَّا دار فيها من منظور الكاتب/ الأديب وعلى طريقته، ولكنَّها في الوقت نفسه لا تتطابق معه، فهذه ليست وظيفة الأدب.
"استيقظ من لحظته هذه وقصد الغرب، وانطلق من لحظة النُّور إلى بحر يسمِّيه العرب بحر الظُّلمات... هناك في مكان يُدعَى نجران... كان لقاؤه الأوَّل ُمع الله!".
هذه عبارة مفتاحيَّة تليقُ بهذا العمل المميَّز، وتحيلنا مباشرةً على مكنونه كما جاء على لسان صاحبه الأديب الرِّوائيِّ؛ إياد العملة في مقدِّمته.
فجاءت روايته؛ "الحارث.. الرِّحلة من العدم إلى الإيمان" صغيرة الحجم -نسبيًّا- المُكثَّفة الصَّادرة عن دار "ناشرون وموزعون" في عمَّان/ الأردن في 124 صفحةً من القطع المتوسِّط بتقسيماتها الخاصَّة، وفصولها المتتالية؛ بدءًا من عتباتها الأوليَّة المقصودة من الغلاف والعنوان واسم المؤلِّف إلى الصَّفحات الافتتاحيِّة، فالإهداء الرَّقيق، فالمقدِّمة الخاطفة التي تنتقل بنا -على الفور- إلى "بطن الصَّحراء"، ثمَّ نجوب فيها ما يطالعنا من نصوصها الموازية من خلال الوقوف على عناوينها ومحمولاتها الدَّالَّة الآتية: "بطن البحر"، "كعبة نجران"، "ظلُّ الكنيسة"، "قلب السُّوق"، "خاصرة المكان"، "نور ومرجانة"، "عمتم صباحًا"، "كبد الحقيقة"، "ركبٌ وقلبٌ"، "رحلة محفوفة بالأمل رغم الألم"، وصولًا إلى "الإله الذي حمى الحرم" في إشارة إلى مقولة عبدالمطَّلب في قصَّة المتغطرس أبرهة الأشرم المحوريَّة في هذه الرِّواية، وما تضمَّنته من مدلولات عميقة في رحلة (الحارث) نحو الإيمان، ثمَّ "في بطحاء مكَّة"، مرورًا بالتَّوأمة بين مكَّة والقدس في: "قداسة مدينتين والرِّباط المقدَّس" ، وانتهاءً بـِ"القاضي الحارث الثَّقفيُّ" البطل/ الرَّمز كما بدأنا به ومعه.
يطوف بنا إياد العملة في عوالم روايته محاكيًا سيرة "الحارث/ البطل/ الرَّمز" العربيِّ الأعرابيِّ الصَّحابيِّ في انتقاله عبر رحلته الزَّاخرة بالأحداث المُعقَّدة الشَّائقة الماتعة، وبنائها الدِّراميِّ المتصاعد الجاذب، من الوهم إلى الحقيقة، من العدم إلى الحياة، من الظُّلمات إلى النُّور، من التِّيه إلى الهداية، من الجهل إلى العلم، من الكفر والشِّرك إلى الإيمان، من الدِّيانات الأخرى إلى الإسلام، من الأرض إلى السَّماء، من الباطل إلى الحقِّ...
"الحارث"؛ رحلة إلى الله تعالى، لا إله إلا هو وحدَه لا شريك له، ولقائه الفيصل برسوله الكريم محمَّدٍ؛ صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، وتعرُّفه على رسالته السَّمحة، واستقراره أخيرًا على الدُخول في الإسلام بعد تجربة ممتدَّة راسخة، ومحطَّات مهمَّة كتلك التَّجربة المضنية التي خاضها خليل الله؛ سيِّدنا إبراهيم -عليه السَّلام- انتهى (الحارث) مثله معها من الشَّكِّ الذي لازمه فيها إلى اليقين الذي كان يبحث عنه، واستقرَّ في قلبه فاطمأنَّ به، واستكانت جوارحه، وعاش سعيدًا بما وجد بعد عناء.
أبدع الأديب إياد العملة في استحضار التَّاريخ ورواياته وشخوصه وأحداثه وأمكنته ومدنه وأزمنته الخاصَّة والعامَّة ولغته ومقولاته وأشعاره وخاصَّة الجاهليَّة منها كأشعار النَّابغة والأعشى وحسَّان والخنساء، وقصص الغرام، ومشاعر الفرح والحزن، وأسفار الحبِّ والتِّجارة والمال، والكفاح والكدِّ والتَّعب والألم والحسرة فيه؛ خدمةً لفكرته، ورؤيته النَّهائيَّة من روايته الأنيقة المليئة بالمثاقفة في أكثر من اتِّجاه، ولا يسعنا إلا أن نترك المجال للقارئ الكريم في الوقوف عليها؛ لئلا نفسد عليه متعة القراءة والكشف والمعرفة من خلال الإبحار في طيَّاتها؛ أملًا في الوصول إلى شاطئ النَّجاة الذي بحث عنه "الحارث" طوال رحلته، وأراد لنا (العملة) أن نصل إليه معه بأسلوبه الحاذق.
ومن الجدير ذكره أن الرِّوائيَّ المهندس إياد العملة ولد في عمّان، حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة من الأردن، وحاصل على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال من بريطانيا. صدر له: مؤلف علمي حول موضوع مكافحة التلوث في المنشآت الطبية. «الميزانين»، قصص. «ويبقى الصوت حيا»، رواية. «حب أرض جو» رواية. «الحنين»، قصص، الآن ناشرون وموزعون، 2023. «الحارث.. الرحلة من التيه إلى الإيمان»، رواية، الآن ناشرون وموزعون، 2023.