تربطني مع المعلم أنس حجازين الذي خدم في الطفيلة معلما لمادة الرياضيات عام (٢٠٠٧) علاقة وطيدة ، هذه العلاقة الوطيدة لم تكن موجودة سابقا ، فهي وليدة بحكم الوظيفة ، فقد تعرفت عليه عندما عين في المدرسة التي كنت أخدم بها في منطقة عرفة - الطفيلة، حيث تفاجأت بتعيينه في المدرسة ، وقتها كنت خارجا من غرفة الصف ، حيث وجدته عند المدير يقوم بإستكمال إجراءات التعيين في المدرسة، ولما أقتربت منه شاهدت أن المعلم يخفي في وجهه هموم وأوجاع لا أعرف مصدرها ، فسلمت عليه وعرفت بنفسي و عرف بنفسه أيضاً، دار حديث جانبي بيني وبينه طمأنته أنه سوف يرتاح في محافظة الطفيلة و المدرسة ؛ كونها مدرسة شبه نائية و أعداد الطلبة فيها قليلة مقارنة بالمدارس الكبيرة ، فهي مناسبة لإعطاء الحصص و تنفيذ المواقف الصفية ، كما أن الأعداد القليلة تساعده على ضبط الصف والإنضباط الصفي في العملية التربوية ، حيث بقيت طوال ذلك اليوم أشرح له حيثيات الحياه والتدريس، كونه تعيين جديد وليس لديه خبرة .
كان لديّ فراسة منذ دراستي الجامعية أعرف ما يخفي الشخص المقابل في ما يعانيه من خلال النظر في وجهه و ما يعانيه و يحمله في قلبه من أحاديث وهموم ومشاعر ، جلست معه منفردا في غرفة المعلمين لأعرف سبب همه وبدأت استدرجه في الحديث لكي يخرج ما في قلبه من أشياء يكتمها ، عندما ارتاح لحديثي معه بدأ يتحدث ما في قلبه من أسرار يختزلها في قلبه ، حيث أوضح لي بأنه يدين بالديانة المسيحية و يخشى أن تتأثر مسيرته التعليمية في المحافظة بعدما يكتشف الزملاء والمجتمع أنه مسيحي ؛ كون محافظة الطفيلة تخلو من المسيحيين بإستثناء من هم موظفيون ، حيث كان يخشى أن لا ينسجم مع الزملاء بعد معرفتهم بديانته ، وقتها ابتسمت في وجههِ وعاتبته على شعوره هذا غير المبرر ، فقد شرحت له أننا زملاء في التدريس وأنني سوف أقف لجانبه في كل أمر يحتاجه و البحث له عن سكن مناسب و عاهدته أن أبقى لجانبه زميلا ، وقتها شاهدت البسمة تعلو محياه و بدا يغدقني بكلمات المدح والثناء وأنه سعيدٌ بصداقتي وأصبح يفضفض عما كان يجول في قلبه .
كان أنس زميلا و معلما فريدا قليل من هو على شاكلته ، حيث كان يتقبل النصح و الإرشاد مني ويستشيرني في كل شاردة و واردة ، فقد كنت ناصحا أمينٌا له و كانت لكلماتي و نصائحي تأثيرا مباشراً على شخصيته في الطفيلة فيما بعد .
لاحظت في معاصرتي لشخصيته بأنه يتمتع بدماثة الخلق ، و حسن المعشر، و طيبة القلب تجاهي و إتجاه الزملاء الذين يعانون من ظروف إقتصادية صعبة . لمست ذلك في مزاملته ، فقد كان واضحا بالتواضع الذي زاده احتراماً و تقديراً ومتميزا بمحبة الزملاء و الطلاب ، و كل من عرفه والتقى به عندما كان يزورني في البيت .
كان أنس حنونا لينا بشوشا معي و مع ابني الصغير قصي آنذاك لدرجة لا يتصورها العقل ، و لعله أكتشف أنني في ظروف صعبة جدا خاصة أنني تزوجت بعد وفاة والدتي - رحمها الله - حسب وصيتها .
كان زميلي أنس يستمع لحديثي و همومي و حزني على والدتي ، و كيف أنها تكفلت بنفقات دراستي الجامعية و كيف أنها غادرت إلى رحمة الله بعد تخرجي من الجامعة و تعييني في ملاك وزارة التربية مباشرة . كنت أشاهد تأثير كلماتي عليه وكنت أرى الدموع تنهمر من عينيه وهو يستمع لحديثي المُثقل بالهموم ، كنت أوصيه بوالديه خيراً و ضرورة احترامها و برهما حتى يتوفق في حياته العملية والزوجية لاحقاً .
لاحظت عليه أنه يحدق بي طويلاً ، فسألت عن السبب ، فقال :" أنا معجب كثيرا بشخصيتك وبإسلوبك وبتفهمك ودعوتك لي لزيارتك بإستمرار، أنت تصلح أن تكون كاتبا روائيا أسلوب حديثك وسردك للوقائع مثير للدهشة والإعجاب ، حيث لم أكن وقتها كاتبا صحفيا و لا أكتب المقالات ولا التقارير الصحفية وأضاف:" ولكنني أشعر بأنك تخفي في قلبك أحزان وشجون غير مبررة " فأجبته أنني عانيت من ظروف قاهرة في دراستي الجامعية وما رافقها من معاناة بسبب الفقر الشديد و معاناة في حياتي الزوجية ، حيث تزوجت في ظروف صعبة و قاهرة بعد وفاة والدتي بأقل من شهر تنفيذا لوصيتها كما قلت سابقا ، فقد كانت تبكي، و عند سؤالها عن السبب؛ أوضحت أنها لن تُكمل هذا العام بسبب المرض ، فقد كانت تستشعر بقرب وفاتها لذلك كانت تستعجل في أمر لخطبة لي إلا أن قدر الله كان الأفضل لها ، وقتها شاهدت الحزن يخيم على أنس و الدموع تنهمر من عينيه .
بعد فترة من تواجده في الطفيلة بدأ أنس ينسجم بصورة كبيرة مع المجتمع و زاد ارتباطه بي حتى أنه كان ينتظرني حتى أفرغ من عملي لكي يجلس معي ويشاركني الحديث في همومه ، وعندما يغادر إلى بيته يعاود الإتصال معي ويشاركني الحديث و هموم الحياه والظروف الصعبة ، كوني في ذلك الوقت لا أملك وسيلة نقل ، حيث أذهب إلى الدوام في حافلة متوسطة وحيدة التي كانت تقلنا إلى المدرسة وتارة مشيا على الأقدام و تارة أخرى مع زميل لي من المعلمين عين في المدرسة من محافظة إربد .
كان في بداية تعيينه في المدرسة يشكو لي من عدم اختلاط الزملاء به ، وقتها كنت أقول له مازحا : سوف يأتي يومٌ يا أنس وتنساني وتصاحب الزملاء أكثر مني، فهي مسألة وقت لكي يتعودوا عليك وتنساني..!!!
كنت أعرض عليه جزءا من راتبي لكي يساير به فترة مكوثه في الطفيلة ومصاريف الحياه والسكن والمواصلات و كان في كل مرة يرفض بشدة متذرعا أن والديه يزودوه بالمال و أنه ليس في حاجة لذلك ، كنت لا اضغط عليه حتى لا أحرجه .
كان يأتي بشكل مستمر إلى بيتي ويجلس مع الزملاء ، وتارة أخرى مع الجيران ، وكنت اتعمد بدعوته لتناول طعام الغذاء وتارة أخرى طعام العشاء وأجلسه مع الجميع لكي يشعر بالسعادة والإنسجام ، كما كنت أدعوه في شهر رمضان المبارك لتناول الإفطار الرمضاني مع مجموعة من الأصدقاء والجيران ، كنت اشعره بأننا زملاء و أخوة قبل كل شيء ، لاحظت عليه بعد فترة انقطاعه عني وعن زيارتي ، فقد دأب على الإتصال بي بإستمرار وقتها إتصلت به لاستفسر عن انقطاعه فأجابني وهو يضحك:" أنه في حمامات عفراء مع الزملاء" وقتها عاجلته وقلت له : من وجد أحبابه نسي أصحابه، وقتها ضحك بصورة هستيرية، حيث عرف مغزى حديثي عندما قلت له سابقا أنه سوف ينسجم مع الزملاء وأنها مسألة وقت ، زادت محبة أنس في نفوس الزملاء و كانوا يجالسونه ويذهبون معه في رحلات و نزهات و كانوا يبادلونه الحب والحديث الممتع الشيق ، كان يمتنع عن دعوتي لمرافقتهم في تلك الفترة ، كان يخشى أن يتسبب لي بالإحراج ، فهو يعلم أنني تحديدا في تلك الفترة كثير الصيام و مازلت أعاني من فقدان والدتي وحزني عليها .
في إحدى الأيام أتصل بي وأخبرني أنه قادم إلى بيتي مع زميلين من إربد وزميل من الطفيلة ، وتفاجأت بإحضارهم دراجة هوائية و حلويات ، وقتها شاهد الغضب يعتريني فعاجلني الزملاء الذين معه قائلين : أنس أحب أن يكرمك لأن راتبه نزل كونه تعييناً جديداً ؛ فأقترحنا عليه شراء الدراجة والحلويات و الذهاب إلى بيتك وقتها قبلت هديته على مضض ، فقد كان فرحا جدا عندما شاهد قصي يركب الدراجة وقتها كان قصي صغيرا لا يتجاوز عمره سنة ونصف .
لم يمكث أنس طويلا في الطفيلة ، فقد حصل على وظيفة في مدرسة خاصة في عمان براتب مغري ، وقتها شجعته على الالتحاق بالمدرسة الخاصة لسببين أولهما : كون راتب المعلم الحكومي في ذلك الوقت قليل، والسبب الثاني أن أنس إيده ممدودة سخي كثير الشراء و الرحلات مع الزملاء و كثير الكرم والضيافة، شعرت أن مصروفه في الطفيلة يزيد على راتبه كثيرا ، أحببت أن يكون له دخل كبير لكي يساير الحياه ، كان في حالة حزن لتركنا ، فقد تعود على صداقتنا و تعود على الجلسات التي كنت اقيمها كل مساء للجيران والزملاء في بلكونة البيت ، حيث كان منسجما بصورة كبيرة معهم ؛ أحبهم وأحبوه .
عندما أنهى إجراءات براءة الذمة من المدرسة و التربية، جاءني إلى البيت مع أقرباء له لكي يأخذونه إلى عمان من أجل توديعي، وقتها شعرت بالحزن لمغادرته الطفيلة و عندما هم بتوديعي وسرت معه إلى السيارة ركب فيها و الدموع تذرف من عينيه ، فما كان منه إلا أن فتح باب السيارة بشكل مفاجىء وهي تسير ورجع و اقترب مني في الشارع و طلب مني أن يحتضنني ومعانقتي للمرة الأخيرة ، فقد كان يعلم أنني بحكم الظروف والعادات وشخصيتي في ذلك الوقت لن أذهب لزيارته في عمان ، فقد دعاني كثيرا و كنت في كل مرة أعتذر بعدم السفر ، وقتها شاهدت الدهشة والغرابة على اقربائه الذين جاءوا معه و تفاجأوا بحجم المحبة والإنسجام والألفة التي تربطنا مع بعضنا البعض ، غادر أنس الطفيلة وما زالت ذكراه ماثلة في مخيلتي وذاكرتي إلى يومنا هذا .