تتبارى الحكومات مستخدمة مليارات الدولارات من الإعانات العامة لجذب صناعات أساسية للمستقبل على أراضيها، في محاولة لدعم سياسات التصنيع المحلي وتقليص الاعتماد على الخارج فيما يتعلق بالصناعات الاستراتيجية.
المثل الأحدث على هذه الاستراتيجية هو تقديم ألمانيا نحو 10 مليارات يورو الى مجموعة "إنتل" الأميركية لإنشاء مصنع لإنتاج أشباه الموصلات في مدينة ماغديبورغ، أي ما يوازي تقريبا ثلث كلفته الإجمالية.
بات إنتاج هذه الرقائق الإلكترونية، حاله كحال الصناعات المرتبطة بالتحول في مجال الطاقة مثل البطاريات الكهربائية، جانبا أساسيا من سيادة العديد من الدول التي تتنافس لتركيز صناعة منتجات كهذه على أراضيها.
على سبيل المثال، أعلنت فرنسا مطلع يونيو منح إعانة حكومية بنحو 40 بالمئة من كلفة إنشاء مصنع جديد لمجموعة STMicroelectronics المنتجة لتقنيات أشباه الموصلات في منطقة غرونوبل، في حين ستتكفّل جارتها إيطاليا بما يناهز ثلث كلفة إنشاء مصنع للمجموعة ذاتها في صقلية.
وقال وزير الاقتصاد الفرنسي السابق ميشال سابان إن "مفهوم السيادة الذي اعتبر لمدة طويلة حجة تجاوزها الزمن، بات يؤخذ في الاعتبار".
وتابع سابان الذي يعمل محاميا استشاريا "باتت المعونة (الحكومية) أداة لاستعادة السيادة".
أخذت أوروبا العبرة سريعا بعدما أقرت الولايات المتحدة قانونا لخفض التضخم يتيح تخصيص إعانات سخية لصناعات المستقبل ويهدد بجذب استثمارات كبرى على حساب القارة العجوز.
وفي الأساس، لجأت الولايات المتحدة الى هذا القانون ردا على سياسة صينية تقوم على تخصيص إعانات ضخمة لهذه الصناعات.
لا عولمة دون مخاطر
وبعدما كانت هيئات المنافسة الأوروبية ترصد بشكل دقيق كل الإعانات الحكومية، باتت تعتمد سياسة أكثر مرونة وانفتاحا، من عناصرها على سبيل المثال المشاريع المهمة ذات الاهتمام الأوروبي المشترك (Piiec)، أو أحدث المحاولات للرد على قانون خفض التضخم الأميركي، أي تقديم إعانات مماثلة بهدف الحد من هروب المشاريع.
في خلفية هذه الإجراءات، تحفظ الذاكرة الأوروبية الجائحة وما تسببت به من نقص التموين بالأقنعة الواقية واللقاحات، والخشية من نقص مصادر الطاقة بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا... هذه الأحداث وغيرها زعزعت الثقة العمياء بعولمة بلا مخاطر.
وبحسب إلفير فابري، الباحثة المتخصصة في الوضع الجيوسياسي في معهد جاك دولور الأوروبي، اتخذ مسؤولو القارة قرارا حاسما "بشأن إعانات الدولة التي يمكن تقديمها إلى الشركات"، مشيرة إلى أن "الزخم انطلق"، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.
وشدد وزير المالية الألماني كريستيان ليندلر على أن "لا وقت لدينا لإضاعته، الآخرون في العالم ليسوا نائمين".
وأضاف في تصريحات مؤخرا "بالمقارنة مع الولايات المتحدة، أنا على قناعة بأننا لا نعاني عجزا في الإعانات... لكن عجزنا الرئيسي هو افتقادنا" النسق السريع في هذا المجال.
لكن هذه المقاربات الجديدة تهدد بهروب الشركات الى الأمام من خلال إطلاق سباق محموم قد يؤدي إلى مزايدة بين الدول الراغبة في استقطاب الصناعات الواعدة الى أراضيها بأي ثمن كان.
وبحسب أوليفييه لوانسي من شركة "بي دبليو سي" للتدقيق والاستشارات، "في الواقع قد يقول المستثمر: سأذهب إلى البلد حيث تكون الحزمة أكثر إثارة للاهتمام"، وهو ما يخشى من أن يدفع الدول إلى جعل العروض المالية لجذب الصناعات، أولوية على حساب الشروط المرتبطة بعمليات من هذا القبيل.
إلى ذلك، قد يعاني التضامن الأوروبي جراء هذا السباق المحموم لجذب الشركات، مع الخشية من أن ينتهي الأمر بتركّز الجزء الأساسي منها في الدول الأكثر ثراء مثل فرنسا وألمانيا.
ومن المؤكد أن المليارات التي سيتمّ إنفاقها لجذب القدرات الإنتاجية لصناعات المستقبل، لن تحل كل الصعوبات المرتبطة بالمجال السيادي.
وسأل لوانسي "في حال وقوع توترات جيوسياسية كبيرة، ماذا سيحصل اذا توقفت هذه المصانع المدارة بقرارات تتخذ خارج أوروبا، عن العمل؟".
وأضاف "إذا كانت فعليا (استراتيجية)، هل يمكننا (توطينها)؟ إلى أي مدى نحن قادرون على الذهاب؟"، متابعا "في أي حال من الأحوال، الوضع وقيمة الإعانات من المال العام تدفع إلى التساؤل".