تشهد الدولة الأردنية مرحلة هامة في تاريخها مع دخول المئوية الثانية، هذه الأهمية تكمن في تنفيذ المسارات الإصلاحية التي وجه إليها جلالة الملك المعظم في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية، ويتوقع من تنفيذ تلك الإصلاحات مزيد من النمو الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين، وتحقيق مزيد من المشاركة العامة وتجويد المنظومة الإدارية، وترسيخ منظومة حقوق الانسان، وصولا الى تحقيق التنمية المستدامة ضمن دولة حديثة تقدم نفسها أنموذجا يحتذى في المنطقة العربية.
جميع القطاعات التي استهدفتها المسارات الإصلاحية باشرت سلسلة من الإجراءات والتطوير لتحقيق الرؤى الملكية السامية، رغم تفاوت مستويات الفاعلية بينها، فنحن أمام مرحلة تتشكل فيها تيارات وقوى جديدة صاعدة ، فيما تعمل الحكومة على تحديث المنظومة الإدارية وإدماجها بالتكنولوجيا، كما تجهد بتنفيذ القوانين التي شرعتها المؤسسة التشريعية ، الى جانب تأطير مؤسسات الدولة لتغدو منسجمة مع التعديلات الدستورية خصوصا فيما يتعلق بتمكين الشباب والمرأة والأسرة.
ويمكننا الخلوص الى أن مسارات جذرية تنمو باطراد في سبيل تحديث منظومة الدولة ككل بكافة مؤسساتها، رغم التحديات القائمة داخليا وإقليميا، ما يتطلب احكام العناية في عملية بناء المؤسسات أو إصلاحها، وتعزيز ثقة المواطنين بأدائها، ومن ضمن تلك المؤسسات التي تلعب دورا هاما في الشأن المحلي مستشارية شؤون العشائر، إذ تواجه هذه المؤسسة تحديات كبيرة في التعامل مع كافة المتغيرات والتطورات الحاصلة، بسبب طبيعة مهماتها وفلسفة عملها، فهي ليست مؤسسة إدارية بحتة يمكن تحديثها بالطرق المعهودة، بقدر ما هي مؤسسة وطنية عريقة تضطلع بمهمات صعبة منذ تأسيس الدولة، و لا تخضع في كثير من الأحيان الى التنظيم البيروقراطي المعهود، ولعل الدعم الملكي لهذا الذراع الهام من أذرعة الدولة؛ مكنها من تقديم الخدمات الاقتصادية والاجتماعية لأبناء الوطن وبمجهود كبير، واكتساب المرونة اللازمة للوصول الى المعضلات الكبيرة وحلها، والحفاظ على استقرار المجتمعات المحلية.
لسنا بصدد المديح هنا، ولكننا نحاول تقديم بعض الملاحظات للحفاظ على مكانة هذه المؤسسة المنبثقة من الديوان الملكي العامر، وتطوير استراتيجياتها في ظل تنامي ظاهرة العولمة وصراع الهويات، وفي ضوء التطورات التي طالت البنية الثقافية والاجتماعية للعشيرة الأردنية، والتي شكلت حجر الزاوية في بناء الدولة وإحكام عصبيتها السياسية وفق الرؤية الخلدونية (نسبة الى ابن خلدون).
ولعل الواقع يجعل المستشارية تقف أمام تساؤلات عديدة تحمل في طياتها تحديات اجتماعية وثقافية واقتصادية؛ وهو : كيف يمكن الحفاظ على هذه البنية العشائرية وترسيخ قيمها المنسجمة مع الثوابت الوطنية والعربية الإسلامية، وسط عالم متغير تنزع فيه المجتمعات الى ثقافة الفردانية، وكيف يمكن تطوير هذه البنية؛ لتكون عوامل داعمة لبناء هذا الوطن وتحقيق الانتماء والولاء الصادق، وكيف يمكن التعامل مع التحديات القائمة في البوادي الأردنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ وكيف يمكن التعاطي مع منظومة العادات والتقاليد العشائرية وإعادة صياغتها بما يتوافق مع سيادة القانون والمنظومة الحقوقية عامة؟ مع العلم ان المستشارية جهة ارشادية في طابعها العام ولكنها تمتلك سلطة أدبية واسعة النطاق اتفق عليها جميع الأردنيين، كما تحظى بدعم جلالة الملك، وهذا ما منحها مصداقية ونزاهة لدى جميع الفئات.
لقد صدرت مؤخرا الإرادة الملكية السامية بتعيين معالي الباشا كنيعان عطا البلوي مستشارا لجلالة الملك لشؤون العشائر، والباشا البلوي شخصية وطنية حازت الحكمة العميقة والنزاهة والسيرة الحسنة، وامتلكت الخبرة الطويلة في المجالات السياسية والاجتماعية والعشائرية، ولذلك حازت على ثقة جلالة الملك حفظه الله، ما يشكل فرصة واعدة لاستكمال مسارات المستشارية في المجالات التشريعية والتنموية التي تخدم أبناء الوطن وتعزز من فرصهم الحياتية، وتحقق استقرارهم المعيشي، وهي فرصة أيضا للإفادة من خبرات مستشار جلالة الملك لشؤون العشائر لتطوير المقاربات التنموية التي تتلاءم مع واقع وظروف أبناء الريف والبادية، وتعزيز مستوى مشاركتهم في الحياة العامة، مع التركيز على قطاعي الشباب والمرأة.
ان المستشارية كغيرها من المؤسسات الوطنية تسعى دائما إلى التطوير والتحديث والتناغم مع المتغيرات، وإبراز الهوية الوطنية الاصيلة والحفاظ على عناصرها ومكوناتها وقيمها الحضارية، فهذه الهوية تشكل روح الدولة الأردنية العربية كما انها امتداد لمبادئ الثورة العربية الكبرى التي قادها الهاشميون واشتركت فيها العشائر الأردنية لتحقيق الكرامة والاستقلال، وجميع ما سبق يجعلنا ننظر بعين الاهتمام إلى مزيد من الدعم والتطوير لتلك المؤسسة الوطنية الرائدة.