منذ تفجرت الثورة الإسلامية في إيران، سعت النخبة الحاكمة في إيران إلى إضفاء الصبغة الأخلاقية على سياستها الخارجية ألتى تتجاوز حدودها الجغرافية، حتى يتسم السلوك الخارجي بقوة أخلاقية وشرعية أمام الشعوب الأخرى، وتمثل تداعيات عملية " طوفان الأقصى " ألتي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية " حماس " في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل في السابع من شهر تشرين أول/ أكتوبر الماضي تحدياً كبيراً واختباراً للأفكار والقيم ألتي أسس عليها النظام الإيراني منذ عام 1979، وربما تنتهي العملية العسكرية في غزة حسب المراقبين بتقويض صدقية هذه الأفكار إذا أستمرت إيران في أنتهاج رد الفعل نفسه من القصف الإسرائيلي على القطاع، يمكن من خلال التعرف إلى القيم والأفكار التي جاءت بها النخبة الإيرانية ومقارنتها بالتطبيق العملي إدراك مدى أزمة الصدقية التي تمس الدور الإقليمي لإيران الذي كثيراً ما روجت له، وأقيم النظام الإيراني منذ تأسيسه على محاور عدة، أهمها العداء لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وتصوير إيران أنها ذات رسالة دينية سامية مصدرها الله، وأنها تسعى إلى تطبيق رسالة الله في الأرض وأنها ذات مسؤولية كبيرة، ولتوظيف تلك الأفكار عملياً نفذت سياسة نشطة خارج حدودها عبر آليات ارتبطت بمبادئ إنسانية لنصرة المستضعفين ومقاومة الإستكبار العالمي والإستعمار للشعوب، فضلاً عن تقديم ذاتها بإعتبارها تدمثل مركز محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط، صور النظام ذاته كنموذج للمقاومة والديمقراطية، فيرى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد خامنئي أن الهوية الإيرانية تتبع مركزاً متميزاً بين الدول الأخرى مثل فلسطين والعراق ولبنان وسوريا واليمن، فكلهم يتشابهون مع النموذج الإيراني في المقاومة لدول الإستكبار. ودارت أفكار الإمام الراحل الخميني والقائد خامنئي بوضوح حول هذا المفهوم بإعتبار أن القوى الغربية المتغطرسة بحسبهما لم تحتمل وجوداً قوياً آخر يعمل ضد مصالحها غير المشروعة في المنطقة، وهي القوة ألتي أنشئت في إيران بعد الثورة، وأن الخطر على الغرب ليس إيران، بل إنتشار الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، حيث عملت إيران على توظيف أي تطورات في المنطقة وربطها بالدور الإيراني، فصورت صعود الإسلاميين في المنطقة منذ نجاح " حماس " في غزة و" حزب الله " في لبنان والإخوان المسلمين في إنتخابات عام 2005 بمصر، على أنه إنعكاس لتلك الصحوة وأن الفضل يرجع إليها لكونها العامل المساعد لها، وأن القوة ( الناعمة ) لطهران المتمثلة في الأيديولوجيا ورؤيتها ورفعها مصطلح حسن الجوار لدول الشرق الأوسط، تتقاسمها الغالبية العظمى من الشارع العربي والإسلامي الذي إجتاحته موجة من النهضة الإسلامية، هذا وكانت قدعملت إيران على تكرار هذا المعنى مع إندلاع التظاهرات في دول المنطقة فيما يسمى الربيع العربي منذ عام 2011، فتحدث القائد خامنئي عن المشتركات ما بين الثورة الإسلامية في إيران وحركة الشارع في مصر، وأن نهضة الشعوب هذه هي حرب بين إرادتين، إرادة الشعب وإرادة أعدائه، واعتبر أن تلك الإنتفاضات هي إستكمال للثورة الإسلامية في إيران، كما عملت إيران كذلك على تشكيل جماعات مسلحة في كثير من الدول العربية على أسس دينية طائفية مثل " حزب الله " والميليشيات العراقية وفي اليمن وسوريا، فضلاً عن دعم جماعات المقاومة المسلحة في فلسطين كحركتي حماس والجهاد الإسلامي، نظراً إلى إدراك إيران محورية ومركزية القضية الفلسطينية بين الشعوب العربية، وتعتمد إيران على هذه الأفكار لدعم تصور النخبة الحاكمة لذاتها ومكانتها في العالم، وتعتبر أن لديها موقفاً إستثنائياً وفريداً يحملها رسالة دينية وإسلامية وإنسانية تجاه المستضعفين في العالم، ويظهر ذلك بصورة جلية في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فالمادة الثالثة الفقرة (16) منها نصت على أن " تقوم الحكومة بتنظيم السياسة الخارجية على أساس المعايير الإسلامية والإلتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم، ونصت المادة ( 154 ) على أن " الجمهورية الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى "، لذا فعلى مدى نحو شهر من القصف الهمجي والبربري الإسرائيلي على غزة الذي راح ضحيته آلاف المدنيين في القطاع، لم تتدخل إيران بصورة مباشرة وحاسمة لنصرة المستضعفين ولدعم أحد عناصر محور المقاومة الذي شكلته في المنطقة أي " حماس "، حتى بات التساؤل من قبل العديد من المراقبين الآن، هل يمكن أن تضحي إيران بحركة " حماس " وتسمح لإسرائيل بتنفيذ هدفها المعلن بالقضاء على الحركات المسلحة الفلسطينية، وتمثل الحرب الهمجيه على غزة إختباراً مهماً لمحور المقاومة، فدستور إيران يلزمها التدخل لمنع إنهيار " حماس " وإثبات فاعلية المحور، في المقابل لا تريد طهران أن تكون هدفاً لتل أبيب وواشنطن الآن وخاصة بعد قدوم المدمرات والبوارج الأمريكية للبحر المتوسط، أو حتى "حزب الله"، لذا فهي تدعم السياسة ألتي ينتهجها الحزب اللبناني لكن من دون الدخول في وحدة الساحات والحملة الشاملة وفي الوقت نفسه تحاول أن تنأى بنفسها عن التورط في الحرب، فبعد شهر من الحرب ما زالت إيران تردد التصريحات التي تروج لأفكارها الثورية والمقاومة، وجاء في كلمة للقائد الخامنئي " أن الأحداث الجارية في غزة ليست ساحة غزة وإسرائيل، بل هي ساحة الحق والباطل وساحة قوة الإستكبار وقوة الإيمان ". لكن إلى جانب هذه التصريحات تعمل إيران على تحركات دبلوماسية قوية لوزير خارجيتها وعميد الدبلوماسية حسين أمير عبد اللهيان للتنسيق مع الدول العربية والإسلامية والإقليمية والدولية لوقف الحرب على غزة، على رغم أنها دائماً ما روجت أن تل أبيب لا تعي سوى لغة القوة وليس الدبلوماسية، ويستمر وزير الخارجية الإيراني في التهديد في حال الإجتياح البري لغزة، ويهدد بأن إسرائيل ستتفاجأ مرة أخرى لأن " المقاومة مستعدة لإجراء مفاجئ جديد " والذي أعتبر أنه سيغير ميزان الصراع، السؤال، هل إيران مستعدة للمواجهة مع إسرائيل وواشنطن من أجل حركة " حماس " أو وقف القصف البربري على غزة ...؟.
حينما أغتالت الولايات المتحدة الأمريكية القائد قاسم سليماني، لم تعلن إيران الحرب أو المواجهات العسكرية بل فقط ضربات صاروخية محدودة على قاعدة عين الأسد في العراق، تعي إيران أن تصعيد الصراع سيعني أنه سيتعين جر " حزب الله " في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات في العراق وسوريا، أي أن الدخول في حرب محتملة مع إسرائيل سيكون أيضاً مواجهة مع القوات الأميركية.
ذكر البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي جو بايدن بعث برسالة مباشرة إلى القيادة الإيرانية حذرها فيها من إستمرار الهجمات ضد أهداف أميركية في الشرق الأوسط، ومن إستغلال الظروف وأوعز إلى - حزب الله - بتجنب توسيع الحرب ضد إسرائيل وعدم إستمرار الهجمات على أهداف أميركية لأن الولايات المتحدة الأمريكية سترد، وكذلك صرح وزير الخارجية الأميركي بلينكن في خطابه أمام جلسة خاصة لمجلس الأمن بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى إلى مواجهة مع إيران، لكنه أكد أنه إذا إستمرت طهران ووكلاؤها في المنطقة بمهاجمة أهداف أميركية، فإن الإدارة ستتحرك، أذ من المرجح حينما تنتهي الحرب على غزة بكل ما فيها من تداعيات، سيكون من الواضح أن إيران تجيد توظيف الأفكار والقيم والشعارات المرتبطة بالعدالة والمقاومة والإنسانية والمستضعفين من أجل تحقيق المنافع الخاصة بها وليس من أجل قضايا المنطقة، وستكون هناك نظرة تقييمية لمدى قوة وتماسك محور المقاومة ومدى إستعداد طهران لنصرة القضايا العربية.
وفي غمرة ما يشهده قطاع غزة من حرب بربرية وهمجية مفتوحة تقوم بها إسرائيل على حركة المقاومة الإسلامية حماس من جهة، وأهل القطاع من جهة أخرى أمام مرأى من العالم، إنتقاماً لما تعرضت له من إنتكاسة وضربة قاسية وموجعة نتيجة العملية العسكرية ألتي قامت بها كتائب القسام الجناح العسكري لـ حماس، قد يكون من المناسب التوقف ملياً أمام الرأي أو الكلام اللافت كثيراً حول حقيقة الموقف الإيراني أو النظام الإسلامي من إسرائيل ومستقبلها في المنطقة، الذي صدر عن كبير الباحثين في مركز دراسات الشرق الأوسط الإيراني الدكتور محمد علي مهتدي الذي سبق أن عمل ملحقاً ثقافياً ودبلوماسياً في السفارة الإيرانية لدى لبنان عام 1999، والذي أعرفه شخصياً.
طبعا بدايةً أقول كمراقب ومتابع للشأن الإيراني، لا بد من الإشارة إلى أن مركز دراسات الشرق الأوسط، الذي يترأسه الدكتور حسين موسوي، هو من أقدم مراكز الدراسات الإستراتيجية ألتي أنشئت بعد إنتصار الثورة في إيران، ورئيسه السيد موسوي على علاقة مباشرة بمكتب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، ويعبر في كثير من الأحيان عما يدور من نقاشات وراء هذا المكتب، إضافة إلى علاقته الوثيقة والقريبة من المرشد نفسه، وقد ذكرت بعض التقارير الصحفية أن المركز يتلقى مساعدات من مكتب المرشد وعلى علاقة مباشرة ووثيقة بمراكز صنع القرار والدولة العميقة والمؤسسة العسكرية، بخاصة حرس الثورة، وأكثر العاملين أو الباحثين فيه على علاقة بهذه المؤسسة بطرق ووسائط مختلفة، ويتصدرون المقاعد الأساسية في تمثيل إيران والنظام في المنتديات العلمية المحلية والإقليمية والدولية في الداخل والخارج، وبعيداً من أي تدخل أو تفسير لما قاله كبير باحثي هذا المركز خلال الندوة التي أقامها مركز دراسات " إطلاعات " التابع لمؤسسة " إطلاعات " الإعلامية تحت عنوان " مصير حرب غزة والسيناريوهات المحتملة "، والتي شارك فيها إلى جانب الكاتب الصحافي المعارض والمتخصص في شؤون الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي أحمد زيد آبادي، يكشف في خلاصته عن سياسة النظام وأستراتيجيته في التعامل مع إسرائيل وحقيقة الموقف الإيراني من هذا الكيان، والذي يشكل إشارة أولى واضحة عن هذه الحقيقة، والتي تكتسب أهميتها لكون " مهتدي " من المقربين من مركز صنع القرار ويتولى مسؤولية رئاسة دورية دراسات الشرق الأوسط ألتي تصدر عن المركز، من ثم من المستبعد أن يكون كلامه رأياً شخصياً، بل تعبيراً عن موقف طالما لم تفصح عنه القيادات الإيرانية بهذا الوضوح، ومهتدي في مداخلته في هذه الندوة لم يتكلم فقط عن الموقف الإيراني والنظام الإسلامي من الكيان الإسرائيلي، بل تحدث أيضاً عن موقف " حزب الله " اللبناني الذي لا يختلف عن الموقف الإيراني، ولم ينس المرور على موقف المحور تلميحاً، ويقول مهتدي كما جاء في النص الذي نقلته صحيفة " هم ميهن " الإصلاحية المعتدلة في عددها الصادر في 29 تشرين أول/أكتوبر الماضي، في تقريرها عن هذه الندوة، والذي سأنقله من دون أي تدخل : " لم يقل أحد إننا نريد أن نقضي على إسرائيل، فإذا أرادت الجمهورية الإسلامية إزالة إسرائيل، لكانت وضعت خططاً لذلك منذ بداية الثورة، كل صدام حصل مع إسرائيل، كان عملاً دفاعياً قامت به الدول، لقد احتلت إسرائيل لبنان، واللبنانيون قاوموا وأخرجوا إسرائيل عام 2000، ولبنان حتى اليوم في حالة الدفاع عن النفس، ولم يقل يوماً إنه يريد القضاء أو إزالة إسرائيل، والأمر نفسه بالنسبة إلى العراق...، نحن نقول إذا دخل حزب الله في الصراع فسيقضي على إسرائيل، لكن لم نقل إن حزب الله يريد القضاء على إسرائيل، من الذي قال إننا نريد القضاء على إسرائيل، إذا ما كانت إيران قد ساعدت حزب الله ، كان الهدف أن تساعدهم في الدفاع عن أنفسهم، حزب الله يعمل بشكل عقلاني، ولديه غرفة عمليات، والعقدة التي يمكنه حلها بالأصابع لا داعي لكي يستخدم الأسنان، الأشتباك اليوم على الحدود، وإذا قامت إسرائيل بتوسيع دائرة المعركة، فإن (حزب الله) سيعمد إلى توسيع دائرة الحرب، هذه القوات لا تخضع لأوامر إيران، وحزب الله هو الذي يملك القرار، طوال هذه السنوات لم أطلب مساعدة من " حزب الله " سوى مرة واحدة، وكانت تتعلق بموضوع الدبلوماسيين الأربعة المختطفين في لبنان منذ عام 1982، ولم يستطع الحزب القيام بأي عمل، عندما قامت إيران بمساعدة حزب الله، لم يكن لديها إستراتيجية خلق قوة تابعة لها، وقامت بمساعدة " الشيعة " اللبنانيين بناءً على أوامر رسول الله، أما ما يتعلق بإمكانية زوال إسرائيل أو عناصر الحفاظ على هذا الكيان، فهو بحث علمي، ولكن لا إيران ولا الحزب يملكان حتى الآن إستراتيجية للقضاء على إسرائيل ".
وإنطلاقاً من هذه القراءة ألتي يقدمها الباحث والدبلوماسي الإيراني لموقف إيران من القضية الفلسطينية وإسرائيل، يمكن فهم المواقف التي أطلقتها القيادات الإيرانية الرسمية، من المرشد الأعلى للنظام الذي حرص بعد ثلاثة أيام من عملية طوفان الأقصى، وأكد بشكل قاطع، عدم تدخل إيران، أو أن يكون لها أي دور في القرار الذي أتخذته حركة حماس، ثم في خطاب آخر، حاول تقديم نصيحة للإدارة الأميركية وتحذيرها، في الوقت نفسه، من مغبة إستمرار عمليات القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة، والخطاب للإدارة الأميركية جاء بناءً على قناعة المرشد الأعلى بأن إدارة الحرب إنتقلت إلى اليد الأميركية، لذلك حاول إيصال رسالة لها من تداعيات أي تطوير للأمور نحو التصعيد المفتوح، لأن ذلك سيؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة، وقد تخرج الشعوب والقوى المعنية بالتطورات في غزة وفلسطين عن السيطرة، وهذا لن يكون في صالح الجهود المبذولة لوقف آلة الحرب والهجمات البربرية ولهدنة إنسانية، هذا التحذير يصب في سياق ما كشف عنه الدبلوماسي والباحث مهتدي، وأن إيران حريصة على إستمرار الجهود لوقف هذه الحرب البربرية والهمجية ، وعدم تجاوزه الخطوط الحمراء التي قد تخلط كل الأوراق، وقد تجبر إيران على الذهاب إلى خيارات لا تريدها أو ترغب فيها، بخاصة أن فرض وقف لإطلاق النار سيكون على حساب إسرائيل وحساب مشروعها الإقليمي ويشكل هزيمة غير مكتملة لها، من ثم هذا ما تريده إيران ألتي تسعى إلى الحد من الطموحات الإسرائيلية ألتي تهدد الطموحات الإيرانية في الإقليم الشرق أوسطي.