في خضم الثورة الرقمية التي تجتاح العالم، يبرز الذكاء الاصطناعي (AI) كأحد أبرز ملامح هذا العصر. وقد لا يكون من المبالغة القول بإن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية، بل أصبح نمطًا جديدًا من أنماط الحياة. وبينما نسلَّط الضوء على مزاياه التي تسهّل حياة الإنسان وتقوم بفتح آفاقًا غير مسبوقة، تظهر في المقابل تحديات جمّة، لا سيما تلك التي تؤثر بشكل مباشر على فئة الشباب، الذين يُعدّون الأكثر تأثرًا وتفاعلًا مع هذه التقنية.
*جيل جديد من المبدعين:-
يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على تغيير قواعد اللعبة في سوق العمل والتعليم وحتى الإبداع أيضا. فقد أتاحت هذه التقنيات أدوات مبتكرة للشباب تساعدهم على التعلم الذاتي، تطوير المهارات، إنشاء المحتوى، بل وحتى إطلاق مشاريعهم الخاصة بأقل التكاليف. فاليوم، يمكن لشاب في مقتبل العمر أن يُطوّر تطبيقًا ذكيًا أو منصة تعليمية عبر الإنترنت دون الحاجة إلى تمويل ضخم أو بنية تحتية تقليدية.
في مجالات مثل الطب، والهندسة، والتصميم، وحتى الفنون، بات الشباب يوظفون تقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل الابتكار، مما يفتح أمامهم أبوابًا واسعة لريادة الأعمال والبدء بالعمل المستقل.
مع كل ماسبق ذكره من مزايا يوفرها الذكاء الاصطناعي، إلا انه يحمل في طياته تحديات جوهرية لايمكن التغاضي عنها، وقد يزيد في بعض جوانبه بطالة رقمية واغتراب واقعي، فالصورة ليست وردية بالكامل. فالذكاء الاصطناعي لا يأتي بدون ثمن. فالتطور المتسارع في الأتمتة قد يؤدي إلى "بطالة رقمية"، حيث تحلّ الآلات والبرمجيات محل الإنسان في العديد من الوظائف، خاصة تلك الروتينية منها. ويبدو أن الشباب هم الأكثر عرضة للتأثر سلبا بهذا التحول المتسارع.
من جهة أخرى، تزداد معدلات العزلة الرقمية، إذ يقضي معظم الشباب ساعات طويلة أمام الشاشات دون حساب أو تقدير لوقتهم المهدور في تفاعل مستمر مع تطبيقات ذكية قد تخلق لديهم شعورًا زائفًا بالاكتفاء الإجتماعي، بينما تعمّق في الواقع مشاعر الاغتراب والوحدة.
لكن مع كل هذه المزايا والتحديات المباشرة وغير المباشرة هل يمكن ان نجد حلولا توازن بين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي وأدواته والتقليل من مخاطره؟
بالطبع يوجد حزمة حلول يمكن العمل عليها تتيح لنا الإستفادة الكاملة من مزايا الذكاء الاصطناعي والتقليل من أثاره السلبية، أولها بل أهمها الوعي، التعليم، والتوازن، فالرهان الحقيقي لا يكمن في وقف هذا التطور، بل في كيفية التكيف معه بذكاء. يجب أن تبدأ المؤسسات التعليمية بإدماج الذكاء الاصطناعي في مناهجها، ليس كمادة تقنية فحسب، بل كجزء من المهارات الحياتية. كما يجب رفع وعي الشباب بالمخاطر النفسية والاجتماعية للتكنولوجيا، وتعزيز ثقافة التوازن بين الواقع الافتراضي والحياة الواقعية.
كما أن دور الإعلام، ومواقع التواصل، والجهات المنوط بها إدارة التعليم والتكنولوجيا، يجب أن يتكامل من أجل بناء جيل واعٍ، قادر على استخدام هذه التكنولوجيا كأداة تمكين لا كقيد جديد.
الذكاء الاصطناعي ليس مستقبلًا بعيدًا، بل هو حاضرنا الذي يتشكّل الآن. والشباب هم الفاعلون الأساسيون في رسم هذا المستقبل. بين أيديهم مفاتيح القوة والإبداع، لكن التحدي يكمن في أن يُحسنوا استخدام هذه المفاتيح، دون أن يقعوا أسرى لسطوة التكنولوجيا أو أسرى لفقدان المعنى.
إن شباب اليوم ليسوا مجرد مستخدمين لهذه التقنية، بل هم صنّاع مستقبلها، وقادة توجهاتها. لذلك، فإن الاستثمار في وعيهم، وتعليمهم، وتمكينهم من أدوات الذكاء الاصطناعي، هو الضمان الحقيقي لتسخير هذه التكنولوجيا لخدمة الإنسان، لا استعباده.
فليكن الذكاء الاصطناعي وسيلة للتقدّم لا بديلًا عن الإنسان، ومحرّكًا للإبداع لا قاتلًا للهوية.
القرار بأيدينا... فإما أن نقود هذه الثورة، أو نُقاد بها.