من أسس العرف والعادة في موروثنا القديم، كانت الوليمة بسيطة، وتقام على رشوف أو نحوه مما تيسر ، أو ذبيحة لا يتجاوز ثمنها أقل من نصف دينار.
كان الكرم أنذاك نابعاً من صفاء القلب، لا من مظاهر الثراء، يجود الكريم بما تيسر، ويطعم بوجه بشوش ونفس راضية، فتنزل البركة على المائدة، ويتجلى الإخلاصُ في العطاء.
وكان لتناول الطعام يومها نظام يؤشر على الرقي والتقدير ، إذ يقسم تقديمة إلى أطوار متتابعة، يبدأُ بها الضيوف الغرباء، ثم المجاورون، ويختمها المعازيب أنفسهم.
ومن الشواهد التي تروى في ذاكرة الكرم الأصيل، ما حدثني به الأستاذ المحامي فراس العريق العبادي عن المرحوم جده الشيخ نمر باشا العريق ، الرجل الموصوف بالكرم والجود ، أنه أصلح بين عشيرتين على وليمة من الرشوف، جمعت القلوب بعد خلاف، وأطفأت نار الفتنة ببركة النية الصادقة والبساطة التي كانت سيدة الموقف في ذاك الزمان.
وكان الطعام يستهلكُ كاملاً، لا يلقى منه غرام واحد في الحاويات او مكب النفايات فكل لقمة تصان شكراً لله، وكل نعمة تحاط بالاحترام، وكأن البركة تقيم في الدار ما دام فيها تقدير للنعم.
أما اليوم، فكم من موائد فقدت منها البركة، وتحول الكرم فيها إلى مظاهر من البذخ والتكلف! نتخلص من النعم في الحاويات، وننفق في التفاخر ما يثقل كاهل الناس.
وقد بات الغلاء فاحشاً، والدخل متدنياً، والبطالة والفقر يرهقان الأسر التي تجاهد لتجاري الميسورين في مظاهر لا تغني ولا تسمن، بل تزيد الواقع قسوة والحال ضيقاً. حتى غاب عن كثيرين جوهر العطاء، وبات الكرم عند البعض رياء وتظاهراً لا صدق فيه ولا بركة.
من سن العرف والعادة لم يكن يتوقع أن يصل ثمن كيلو اللحمة من 10-12 دينار، وفي المطاعم قد يتجاوز 25 ديناراً. ومناسبات قد تصل كلفتها إلى ما يزيد عن مئة الف دينار.
وما يدعو إلى الدهشة أن بعض من يرفعون لواء الوعظ والدعوة قد اعترضوا على مبادرة معالي وزير الداخلية التي دعت إلى ترشيد العادات الاجتماعية والحد من المبالغة في الجاهات والأعراس وغلاء المهور وبيوت العزاء. أليست تلك المبادرة خطوة رشيدة تعيد للعرف وقاره، وللمجتمع اتزانه، وللكرم جوهره النقي.
رحم الله زمن البساطة والنية الطيبة، زمناً كانت فيه الوليمة بركة لا مباهاة، والعطاء رحمة لا رياء، والكرم سلوكاً أصيلاً لا مظهراً عابراً. والله تعالى من وراء القصد