لم يكن الحديث عن "العزوة” في خطاب الملك مجرد استدعاءٍ للذاكرة أو تزيينًا للعبارة، بل كان إعادة تعريفٍ عميقة لمفهوم القيادة والمساندة في زمنٍ تغيّر فيه معنى الولاء وتبدلت فيه أدوات الفعل. فالعزوة – كما قال الملك – ليست بالعدد ولا بالموقع، بل بالكفاءة والقدرة والصدق في خدمة الناس، وهي رسالةٌ بقدر ما كانت واضحة في ألفاظها، كانت أعمق في مقاصدها، إذ أيقظت في من تولّى مسؤوليةً شعور الواجب لا امتياز المنصب.
لقد أعاد الخطاب توزيع المعاني بين من يسمع ومن يفهم، بين من يصفّق للكلمة ومن يحملها إلى الميدان. كانت كلمات الملك امتحانًا للوعي الجمعي: هل نُحوّل الثقة إلى عمل، أم نبقيها شعارًا؟ وهل نستطيع أن نترجم التكليف إلى مبادرة، أم نظل أسرى الرتابة؟ هنا يتبدى الفارق بين من استشعر النداء ومن اكتفى بترديده.
الذين نالوا شرف الخدمة في المجالس التشريعية والتنفيذية عليهم أن يقرأوا الخطاب لا كمديحٍ لهم، بل كاختبارٍ لهم. أن يبحثوا خارج دوائرهم عن من أثبتت سيرته أنه قيمةٌ مضافة، لا منافسٌ يُخشى. أن يعتبروا من حولهم سندًا يقوّيهم لا ظلًا يهددهم، وأن يدركوا أن الخطر الحقيقي ليس في القادم إليهم، بل في الركود داخل الدائرة المغلقة. فربما كان لدى من هم خارجها تصوّرٌ يُحدث المشهد ويُجدده، دون استعراضٍ أو انكفاءٍ أو حساسيةٍ مغلّفة بالكرامة.
الأردن كما رآه الملك في خطابه، وطنٌ يسبق الأفراد في قيمته، ويستمد قوته من كفاءات أبنائه لا من خلفياتهم أو انتماءاتهم. حين يتحدث الناس خارجه، يتحدثون عن دولةٍ صغيرةٍ بحجمها، كبيرةٍ بعزوتها الفكرية والإنتاجية؛ عن تجربةٍ في الفهم الاقتصادي والسياسي تتجاوز مساحتها الجغرافية، وتُقاس بعمق إدارتها وحكمة مؤسساتها.
ولذلك فإن من نال الثقة الملكية عليه أن يواجه التحدي كما رسمه الخطاب: أن يُدخل في برنامجه من يستطيع أن يُحدث الفرق، لا من يُعيد الصدى. أن لا يكتفي بمعرفةٍ كانت، بل أن يستند إلى معرفةٍ تطورت وأصبحت إضافة. لأن الأردن في لحظته الراهنة لا يحتاج إلى الأصوات المرتفعة، بل إلى العقول التي تصنع الهدوء المنتج.
المرحلة القادمة – كما ألمح الملك – ليست عن المقاعد، بل عن المعنى؛ عن أولئك الذين يتقدمون وهمّهم الوطن، بلغة الكم والكيف، والمقارنة الإيجابية التي تعزز الثقة بالقادم، وتستفيد من الماضي والحاضر بلغة المستقبل. أولئك الذين يذوّبون سلبية الطرح بتذويب أسبابها، ويؤمنون أن بوصلة الدولة هي الأكثر جودةً وثباتًا في ظروفٍ غامضةٍ ومتغيرة، في وطنٍ يُغرقه الجاحدون بتوصيفاتٍ تُظهر عجزهم لا عجزه، وتكشف قصور أدواتهم لا قصور حلقاته العاملة فيه.
فالعزوة كما قال الملك، لم تعد محصورةً في القرب، بل في القدرة على النهوض بالفعل والفكر معًا.
إنها العزوة التي أعادت تعريف نفسها… والوطن الذي يكتشف ذاته من جديد.