تُعد العلاقة بين القبيلة والدولة من أبرز المحاور الفكرية والاجتماعية في تحليل بنيان المجتمعات العربية، حيث تتقاطع مفاهيم الانتماء الجغرافي والاجتماعي مع الولاء السياسي والقانوني. فالقبيلة تمثل وحدة الدم والجذر التاريخي للفرد، بينما تمثل الدولة الإطار الذي يربط بين مختلف الجماعات على أرضية مشتركة من الحقوق والواجبات. إن دراسة هذه العلاقة تكشف عمق التحديات التي تواجه بناء الدولة الحديثة في بيئة تحتفظ بعلاقات قبلية قوية، ويُظهر أيضًا كيف يمكن للوعي الوطني المتوازن أن يحقق التلاحم بين الهوية المحلية والانتماء العام.
ولا جدال في القول إن الاعتزاز بالقبيلة ووحدة الدم يعد عنصرًا أساسيًا في تشكيل الوعي الفردي والجماعي، فهي منبع القيم والأعراف والتقاليد، وتمنح إحساسًا بالانتماء العاطفي والأمني. وقد عبّر كثير من المفكرين عن أهمية هذه الروابط؛ فالفارابي، على سبيل المثال، رأى أن العصبية – بمعناها القومي والاجتماعي – تشكل أساسًا لتكوين الجماعات، لكنها يجب أن تكون موجهة نحو الصالح العام. وفي السياق العربي الحديث، أثبتت العديد من الحالات دور القبائل في حماية المجتمعات المحلية والمساهمة في الاستقرار الاجتماعي، كما يظهر في الأردن، حيث كانت القبيلة عنصرًا رئيسيًا في تعزيز الوحدة الوطنية عبر دعم مؤسسات الدولة والمشاركة في بناء هياكلها.
غير أن الاعتراف بالقبيلة كركيزة أساسية لا يلغي الحاجة إلى الدولة، التي تمثل مطلبًا حتميًا لتحقيق العدالة والتنمية على نطاق أوسع. فالدولة تجمع مختلف الجماعات تحت سلطة موحدة، وتفرض قوانين عامة تكفل تكافؤ الحقوق وتوازن المصالح. ويؤكد ابن خلدون أن الدولة تقوم على مبدأ العصبية، لكن العصبية لا تتحقق إلا إذا انصهرت في كيان أوسع يحقق النظام والاستقرار، أي الدولة، التي تمثل المستوى الأعلى للسيادة والشرعية. وفي الأردن، يظهر أن الولاء للدولة لا يتناقض مع الانتماء القبلي، بل يمكن أن يتحول الولاء القبلي إلى دعم فعال لبناء مؤسسات الدولة وتعزيز الهوية الوطنية.
ومع ذلك، يكشف الولاء المزدوج بين القبيلة والدولة الإشكالية الأساسية المتمثلة في تغليب الولاء للجماعة على حساب الدولة. فحين تُقدّم مصلحة القبيلة على مصلحة الدولة، يتعرض التوازن العام للخطر وتضعف كفاءة الإدارة وسيادة القانون، كما يظهر في النزاعات على الموارد والمناصب. ومن التحديات المعاصرة محاولات بعض الأقليات إثبات ولائهم وانتمائهم على حساب الأغلبية، بحجة أن الأخيرة أكثر ارتباطًا بالقبيلة من الدولة، ما يؤدي إلى شعور بعدم المساواة وتوتر اجتماعي داخل المجتمعات.
الأهمية تكمن إذن في تقديم الولاء للدولة مع الحفاظ على الروابط القبلية، وهو ما يخلق نموذجًا متوازنًا يمكن أن يُحتذى به في الأردن والمجتمعات العربية عامة. وقد أكد ابن رشد على ضرورة تحويل الروابط المحلية إلى أدوات لبناء الدولة بدلاً من أن تكون عائقًا أمامها. إلا أن المزاجية والاختباء وراء عباءة الدولة أو القبيلة يمثلان تحديًا آخر، حين يستخدم الأفراد أو المسؤولون الدولة لتحقيق مصالح شخصية أو النفوذ القبلي لأهداف ضيقة، ما يؤدي إلى تضارب المصالح وتآكل الثقة بالمؤسسات. وقد أشار ابن خلدون إلى أن الدولة تحتاج إلى قيادة رشيدة تفهم هذه الديناميات، وتستطيع ضبط العصبية المحلية لصالح الكيان الأكبر، وإلا فإن مزاجية الأفراد وانتهازية بعض الجماعات تؤدي إلى ضعف الدولة وهشاشتها.
كما يمثل غياب الإيثار وتنامي الأنا مشكلة واضحة عند تقديم المصالح الفردية أو القبلية على المصلحة العامة. فالمجتمعات التي تهيمن عليها النزعة الفردية أو الانتماء المفرط للجماعة على حساب الدولة تواجه صعوبة في تحقيق التنمية المستدامة. وقد أثبتت التجربة الأردنية أن الأفراد والجماعات الذين تجاوزوا مصالحهم الضيقة دعمًا لمصلحة الدولة ساهموا في تعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي، بينما أظهرت الحالات المعاكسة الفشل في إدارة الموارد وحل النزاعات.
في نهاية المطاف، تشكل الهوية الوطنية الأردنية الإطار النهائي الذي يربط بين أبناء الدولة كافة، متجاوزة الانتماءات القبلية والجغرافية، ومركزة على المشتركات الثقافية والسياسية والاجتماعية. وقد شدد ابن خلدون على أن نجاح الدولة يعتمد على توسيع نطاق العصبية من الجماعة المحلية إلى الأمة، بحيث تصبح الدولة مكانًا لتحقيق العدل والنظام. وفي السياق الأردني، ساعدت الهوية الوطنية على بناء مؤسسات فعّالة، وحماية المجتمع من التفكك، وضمان مشاركة جميع الفئات في صنع القرار.
ختامًا، يمثل التوازن بين الانتماء القبلي والانتماء للدولة تحديًا دائمًا في المجتمعات العربية. فالقبيلة تزود الفرد بالهوية الجذرية والقيم الأخلاقية، بينما توفر الدولة الإطار القانوني والسياسي لتحقيق التنمية والاستقرار. إن فهم الفلاسفة العرب لهذه الديناميات، من الفارابي وابن خلدون إلى ابن رشد، يوضح أن الولاء للدولة لا يتناقض مع الاعتزاز بالقبيلة، بل يمكن أن يكون امتدادًا لها إذا استُثمرت العصبية المحلية في خدمة الصالح العام. وفي هذا الإطار، تظل الهوية الوطنية الأردنية البوصلة التي توجه الانتماءات المحلية نحو بناء دولة قوية ومستقرة، قادرة على الحفاظ على حقوق الجميع وتحقيق العدالة الاجتماعية.