في منطقة القرن الأفريقي الملتهبة، يبرز ملف "أرض الصومال" Somaliland كواحد من أكثر الملفات تعقيدا؛ فبين رغبة جامحة في الاستقلال واعتراف دولي مفقود، وبين تمسك "مقديشو" بوحدة التراب الصومالي، تتشابك المصالح الإستراتيجية للقوى الكبرى مع التعقيدات القبلية المحلية.
أولا: الفرق بين "أرض الصومال" و"جمهورية الصومال"
لفهم جذور الأزمة، لا بد من التمييز بين الكيانين سياسيا وتاريخيا:
جمهورية الصومال الفيدرالية الدولة الأم: هي الدولة المعترف بها دوليا، وعاصمتها "مقديشو". تخضع لنظام فيدرالي يضم ولايات متعددة مثل بونتلاند، جوبالاند، وحديثا ولاية خاتمة.
تعاني الحكومة المركزية من تحديات أمنية وسياسية، لكنها تتمسك بالشرعية الدولية ووحدة الأراضي بما فيها الأقاليم الشمالية.
أرض الصومال صومالي لاند: هو إقليم يقع في الشمال الغربي، وعاصمته "هرجيسا".
أعلن انفصاله من جانب واحد عام 1991 عقب انهيار النظام المركزي. يتمتع الإقليم بحكومة مستقلة، وجيش، وعملة، ونظام ديمقراطي مستقر نسبيا مقارنة بالجنوب، لكنه لا يحظى بعضوية الأمم المتحدة.
ثانيا: الجذور التاريخية للصراع.. من الاستعمار إلى الانقسام
يستند دعاة الانفصال في "أرض الصومال" إلى حجج تاريخية تعود إلى حقبة الاستعمار:
الحدود الاستعمارية: كانت "أرض الصومال" محمية بريطانية British Somaliland بينما كان الجنوب مستعمرة إيطالية.
لحظة الاستقلال: نالت أرض الصومال استقلالها عن بريطانيا في 26 يونيو/حزيران 1960، وظلت دولة مستقلة لمدة 5 أيام فقط قبل أن تتحد طوعيا مع الجنوب في 1 يوليو/تموز 1960 لتشكيل "الجمهورية الصومالية".
فك الارتباط: بعد عقود من الشعور بالتهميش والقمع تحت حكم "سياد بري"، ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1991، قررت "الحركة الوطنية الصومالية" في الشمال استعادة وضع ما قبل الوحدة، معتبرة أن الوحدة كانت خيارا فاشلا.
ثالثا: تصدع الجبهة الداخلية.. ظهور "ولاية خاتمة"
مؤخرا، وجدت "أرض الصومال" نفسها تتجرع من الكأس ذاته؛ إذ انشقت عنها المناطق الشرقية مدينة لاسعانود ومحيطها لتعلن تأسيس "ولاية خاتمة" التابعة لمقديشو.
هذا التطور جاء نتيجة لشعور قبائل "الدارود" في الشرق بالتهميش من قبل قبيلة "إسحاق" المسيطرة على الحكم في هرجيسا، مما يثبت أن "العامل القبلي" لا يزال المحرك الرئيسي للصراعات، حيث انتهت المواجهات العسكرية في 2023 بهزيمة قوات أرض الصومال وانسحابها، وهو ما عدته مقديشو انتصارا لخيار الوحدة.
رابعا: الأهمية الإستراتيجية والثروات
تكتسب "أرض الصومال" أهمية قصوى تجعلها محط أنظار القوى الدولية:
الموقع الجيوسياسي: تطل على خليج عدن ومضيق باب المندب، وهو أحد أهم ممرات التجارة والطاقة في العالم. هذا الموقع يجعلها نقطة حاكمة لأمن الملاحة في البحر الأحمر.
ميناء بربرة: يمثل هذا الميناء بديلا إستراتيجيا عن موانئ جيبوتي المكتظة بالقواعد العسكرية بما فيها الصينية، تنظر الولايات المتحدة إلى "بربرة" كموقع محتمل لقاعدة عسكرية توازن النفوذ الصيني في القرن الأفريقي.
الثروات الطبيعية: يمتلك الإقليم احتياطيات غير مستغلة من المعادن الحيوية والنادرة، بالإضافة إلى إمكانات واعدة في مجال النفط والغاز، ما جعلها تعرض على واشنطن حق الوصول لهذه الثروات مقابل الاعتراف.
خامسا: الموقف الأميركي.. بين ضغوط "الكونغرس" وتريث "ترمب"
على الرغم من أن السيناتور الجمهوري "تيد كروز" قاد حملة للاعتراف بأرض الصومال، واصفا إياها بـ "الشريك المحوري" لمواجهة الصين ومكافحة الإرهاب، إلا أن الرئيس "دونالد ترمب" أبدى موقفا أكثر تحفظا.
ففي تصريحه الأخير، رفض ترامب الاعتراف الفوري، مفضلا دراسة المصالح الأميركية بروية، رغم الإغراءات الأمنية والعسكرية المقدمة من هرجيسا.
يبقى مصير "أرض الصومال" معلقا بين طموحاتها في نيل شرعية دولية، وبين واقع إقليمي معقد تفرضه التحالفات القبلية والمصالح الإستراتيجية للقوى العظمى.