تسرع هيله بعد مساعدة أمّها في حَلْب الأغنام لتبديل ملابسها ، لتذهب مع أبيها لشراء ملابس العيد ، فيسيران في طريقٍ طويلٍ حتى يصلا إلى (الزفته) الشارع المؤدي إلى المدينة ، وهناك ينتظران تحت أشعة شمس الصحراء الحارقة سيارةً تأتي لأخذهم ، فالسيارات قليلة آنذاك فيجلسان تارة ويقفان أخرى ، إلى أن جاءت من بعيد سيارة (بكم) فأوقفها أبو هيله وإذ بها بحاجة إلى راكبٍ واحد ، فركب أبو هيله وأجلس إبنته في حِجْره ، إلى أن وصلا سوق المدينة.
فأمسك ابو هيله بيد ابنته وسار في السوق ، بينما هيله تنظر هنا وهناك وهي ممسكةً بطرف منديلها الصغير ، فتارةً تضعه في فمها وأخرى تشدّه إلى عنقها في دهشه كبيرة ، فتلك أصوات الباعه ينادون على بضاعتهم وذاك بائع عصير الليمون البارد المنعش، وبائع عرق السوس بجُبته المزركشة وطاقيته الحمراء وسرواله الأسود العريض ، وطقطقته للفناجين بيديه التي تجذب المّارة للشراء ، وروائح البخور ، والحلو بأشكاله وألوانه الزاهية هنا وهناك .
فيقول لها أبوها : هيا لنشتري لكِ قطعة قماش (شِقْفَه) للعيد ، فيدخلان محلاً فيه رجلٌ مُسِن ، فسلّم عليه أبو هيله وقال له : أريد ( شقفه زينه للمزيونه هيله) ، فاحمّرت خدود هيله خجلاً أمام ذلك الرجل ، فأخذ يتفقد الاقمشه ، ثم جاء بقطعة قماش كبيرة ملفوفة حمراء مزركشة بورود صغيرة زرقاء اللون ، وناعمة ولامعة ، فقال سأقصّ للمزيونه هيله من هذه.
فانشرحت سريرة هيله وذهب بها الخيال بعيداً وقد لبست ثوب العيد وأخذت تتمختر به امام صويحباتها.
فإذا بأبيها يقول : ( يلا يا هيله ، نشتريلك صندل العيد) . فلم تسع هيله الفرحة ، إذ اخذت تسرع الخطى مع أبيها ، ولو بيدها تركض أمامه ، لكنها لاتعرف تلك المحَال والسوق مزدحمة ، والمّارة كُثُر وهناك عند محل الأحذيه لا يلفت انتباهها سوى ذلك الصندل الأحمر اللامع ، ذو الطقطقات الجميلة على أرضيه المحل.
فحين اخذت تقيسه لا تريد أن ترميه وتمنت لو بقيت تلبسه وتسير به في السوق ، وتستمعُ لطقطقاته التي نسجت في عقلها ايقاعًا موسيقياً عذبًا ، وكأنّها تلك الأميرة التي جاءت تتفقد أحوال الرعية ، فتُمسك بفستانها الصغير وترفعه قليلاً لتنظر إليه تارة ثم تمشي أخرى ، إلى أن قال لها أبوها : ( يلا بنيتي ، هذا للعيد) ، فاعطته لأبيها وهي تشبك يديها الصغيرين ببعضهم بالقرب من وجهها فرحًا وحبًا وشغفاً بأبيها.
ثم يسيران هيله وأبوها حتى يصلا بقالة ( الحاج أبو توفيق) وهناك يسلّم والدها سلاماً حارًا عليه ويُجلسها على أحد الأكياس الموضوعه في البقالة ، فقد امتلأت بقالته بأنواع الحلو والبهارات وسمنه الغزالين وشاي الغزالين ، وصابون نابلس والراحة والبسكويت والحلاوة ، والنيلة وعلب الكبريت وأكياس العدس والجريشه ودخان (الهيشي) ، وقد علّق غربالاً ، ومنخالاً للطحين ، وأسلفها (المغسال) وهو ذلك الإناء المعدني الكبير لغسيل الملابس والاستحمام ، وصحن ( الألمنيوم) للعجين ، وبعض الزبادي المعدنيه ( السّحَلَه) ، وهناك على الأرض قد وضع بعض حبال الليف ملفوفة بشكل دائري . وفوقها قد علق بعض الأجراس والقراقيع وقد وضع حزم (الخيزران) في طرف الدكان ، فتناول والدها واحدةً ذات رأس مدبدب ، ثم قال للحاج أبو توفيق : ( حط لنا من الحلو الزين).
فيقول الحاج ابو توفيق : ابشر ابو هيله.
فيأتي بباكيتات الناشد اخوان ، واكياس بيض الحمام ، والسلفانه ذات الباكيت الأخضر
يمسكها بلطف وكأنّها هدية السلطان ، وعلب التوفي المعدنيه المستطيلة الشكل ، وعلب البسكويت المعدنية الدائرية الشكل ، ثم يضعها في كرتونه كبيرة الحجم.
ووالد هيله يقول له ( زود الحلو زود).
ويردفها بالراحة والحلاوة ، حتى تمتلىء تلك الكرتونة من الحجم الكبير ، وهيله تغمرها الفرحة الكبرى وهي تنظر إلى الحلو فهو سيبقى مدةً طويلةً في نظرها.
ينتهي أبو هيله وإبنته من الشراء ، فيستأجر سيارة ليعودان إلى بيتهما في قلب الصحراء.
فتركب هيله وتسير بهما السيارة وسط غبار الصحراء ، وحجارتها الوعرة ، فتهتز تارة وتسقط عن الكرسي أخرى ، لكنها لا تأبه لذلك فهي شاردةٌ في أحلامها مع فستانها الذي ستخيطه للعيد وصندلها الأحمر وتتذوق الشوكلاته (السلفانه) والملبس المحشو باللوز (بيض الحمام).
وبعد وصولهما بفترة لبيت الشعر تذهب هيله مع أمها للخياطة ( أم عايد) لتخيط لها ثوب العيد ، فتأخذ مقاسها بذلك المتر ذو اللون الأصفر وهيله تنتشي فرحًا وفخرًا ، فتقول لها أم عايد المغرب يكون جاهز بإذن الله.
فتعود أم هيله إلى البيت وتعدّ لابنتها الحناء ، فتغلي الكركدية وتعجن به الحناء ، ثم تضع قليلاً من الزيت عليها وعند الغروب تجلس هيله بحضن أمها فتضع لها الحناء على شعرها كاملاً ، ثم (تعصبه) لها بمنديلٍ أو (عصابة سوداء).
ومع المغيب تُسرع هيله راكضةً مع احد إخوتها لتأتي بفستانها ، فتأخذ تقيسه عند أم عايد وإذا به منفوخ الأكمام القصيرة ، وطويل فحين تدور به يلف بها كأنها السندريلا ، وفيه ذاك الزنار العريض ذو اللون الأزرق لتربطه من الخلف ، وقد خاطت لها بُكلة لشعرها ذات لون أزرق أيضاً ، فإذا بخدودها قد إجمرتا من الخجل والفرحة الغامرة ، وفي تلك الليلة تنام هيله وهي تحتضن فستانها الأحمر المزركش في يديها المخضبتين بالحناء ، وصندلها الأحمر بجانب وسادة رأسها.
وفي صباح العيد ومنذ ساعات الفجر الباكر يُشعل أبو هيله النار في ( الربعه) الخاصة بالرجال ، لحمس القهوة بالمحماسه فينتشر عبق القهوة في ارجاء البيت لتوقظ هيله وإخوتها ايذانًا بمجيء العيد.
فيسرعون إلى أمهم يسألون :( هل وصل العيد)؟ فتقول لهم أمهم : نعم ، ناموا بدري الوقت. فيأبون النوم ، ويأخذ كل منهم ملابسه إلى أمه ليستعد لحمام العيد.
بينما والدهم اخذ بدق القهوة المحمصة بالمهباش الذي تطرب له الاستماع ، فكأنه يقول في كلّ دقة يدقها : أهلاً بالعيد .
أما هيله فأسرعت إلى فك (عصابة) يديها لترى لون الحناء على يديها ، فإذا بها حمراء اللون جميلة فتسرع والفرحةُ تغمرها إلى أمها لتُريها يديها ، فتُقبّلها أمّها وهي جالسة تخبز لهم اللزاقيات فتدهنا بالسمن البلدي وترشها بقليلٍ من السكر، وتقول لها : ( يلا بنيتي غسليهم يا زينهم يا هيله الزينة).
وبعد حمام العيد كلّ قد لبس ملابسه الجديدة وانطلق لمعايدة أبيه وأمه ، إلا هيله التي أخذت تارةً تنظر لفستانها واخرى لشعرها الأحمر العابق بالحناء ولزركشة يديها ، أمّا طقطقات صندلها فتلك حكاية لوحدها.
فتُسرع لمعايدة والديها لتنطلق لصويحباتها متباهيةً أمامهن ، وفي يديها قليلٌ من حبات السلفانه وبيض الحمام المحشو باللوز ، فتتناولها سويًا ، وكأنّها تقول لصانعي الشوكلاته ، يجب أن تكون بالمكسرات فهي أطيب مذاقاً وألذ .
يتبادل الجيران والأهل التهاني بالعيد ، فهذا اليوم لا عمل فيه عند البدو ، فقد تركو للرعيان ( عيديتهم) وزادهم.
ليذهبوا لمعايدة العمات والاخوات والبنات والأهل والأقارب في فرحة غامرة بالإفطار بعد الصيام ، وبأثواب العيد الجديدة ، وحلو العيد ولقاء الأقارب
أمّا هيله فلم تنسى يومًا عبق العيد ورائحته التي تفوح في صباحه تنثر الفرح في الارجاء.