ليس من حق أحد أن يُصادر مخاوفنا على الدولة أو يصنع آمالاً خائرة مرتبكة، ولا يجوز لكل الممتطين لصهوة السلطة أن يبعثوا فينا آمالاً مترعة بالقلق، وأمنيات لا تغير في واقع الحال شيئاً، فالأوطان أمانة في رقاب أبنائها، وخدمتها شرف وواجب على كل القائمين على شؤونها وإدارة الشأن العام فيها، ومن حقنا أن نعلق الجرس ونُعلي الصوت للتحذير من انكماش قدرة كبار المسؤولين على حماية هيبة الدولة، واحترام القانون.
الدولة القوية الواثقة المستندة إلى حكمة أبنائها وانضوائهم في فيالق وطنية ملتزمة لا تداري، ولا تواري، ولا تقبل اختراق سيادة القانون، ولا تنحاز لعوامل الخوف، ومتطلبات الاستسلام للمطالب غير العادلة للقوى والأشخاص، والدولة القوية لا تشيخ، ولا تهرم وتبقى المُلهم والمُعين للأحرار والمؤمنين بهيبتها، وسيادة القانون فيها، والقابضين على جمر الوطنية مهما غلت التضحيات، أو تعاظم الإحباط، أو ادلهمت أوضاع لا تليق بإشراقته، وطهر ترابه الغالي.
ما زلنا لم نصحو بعد من صدمة الاستقواء على الدولة التي أظهرت عواراً ماثلاً في البنية المؤسسية، وأذهان المسؤولين وكبار الموظفين، حتى ظننا متوهمين أن مراكز القرار قد سارعت بحرص لمعالجة الخلل البنيوي وفق ضوابط وطنية محكمة تأخذ بعين الاعتبار انكفاء بعض المسؤولين لزوايا الهروب والغياب على أمل نسيان مساءلة هنا ، أو تناسٍ لمسؤولية هناك، ذلك التصنيف والتقييم الذي أضحى ضرورة في إدارة الدولة، فنحن ما زلنا نحاول اجترار الضعف والاستسلام الذي أنهك ركائز الدولة، وحيوية أدائها.
قد قلنا غير ذي مرّة ولغايات استعادة الثقة بهيبة الدولة ومؤسساتها أنّه قد بات من الضروري تجريم المال الأسود الذي فتك بنزاهة البناء الديمقراطي الوطني، وخلق قيادات متعفنة فاسدة، وسمّم ضمير النخب بل أصبح المجتمع في معظمه ليس جادّاً في رفع الغطاء عن الفاسدين وفق متطلبات الهويات الفرعية، بل يتلذذ بعضهم بصلف في مخالفة سيادة القانون استناداً لمقتضيات الغضب الاجتماعي تجاه الحكومة، والبرلمان، أو رغبة في إشاعة الفوضى، أو خلق فراغ في السلم الأهلي، والمجتمعي لدوافع ومقتضيات أرجو أن لا تكون خارجية على الأقل.
الحقيقة المرّة التي ما زالت مسجّاة في دوائر صنع القرار، وتسهم في اختلال المعادلة الوطنية هي أن المسافة بين البيروقراطية الإيجابية في الإدارة العامة، ودوائر صنع القرار في مجلس الوزراء قد أضحت تتسع بمسافات مقلقة، ومثيرة للرعب ويتم تعبئتها بأساليب المحاصصة التقليدية المقيتة، واستدعاء شخصيات قد تحمل متطلبات الكفاية الفنية، ولكنّها لا تستطيع إقناع القوى الفاعلة على الأرض وفي مقدمتهم جمهور المحافظين والبيروقراطية الصامتة، وغياب الوجوه السياسية القادرة على التعامل مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية.
تاريخياً ووفق قواعد المنطق الوطني النظيف لا بد من انتصار القوى المتمسكة بالهوَّية الوطنيَّة؛ وفق معايير ضريبة الدم، بعيداً عن مفهوم المواطنة وفق ضوابط ضريبة الدخل سيّما وأن استعجال البعض للانقضاض على المحافظين، وتحييدهم وخلق قيادات بديلة لا تقوى على ضبط إيقاع هيبة الدولة، وخلق مساحات من الفراغ المؤلم، واستدعاء أشخاص لا يتجرأون على مواجهة القوى المنفلتة من عقال الالتزام الوطني، ويستحضرون الفوضى كلمّا جاء خطب أو حدث.
ولتحقيق ذات الهدف على كل المؤسسات العامة في الدولة أن تعيد قراءة المشهد الوطني بواقعية، وعدالة وأن تدرك بوعي أن الدولة قد أصابها وهن أوجعنا جميعاً يتوجب معالجته فوراً دون إبطاء، وأن مراقبة نمو الثروة يتوجب أن يكون خيار الدولة العاجل لتبدأ بتطبيقه على الوزراء الحاليين، والسابقين وفي مقدمتهم كل الذين ارتدوا أثواب الفضيلة عقوداً طويلة كي ندرك بثقة أن الوطن بخير. وليكون اللبنة الراسخة الأولى لإعادة هيبة الدولة، وتعزيز الثقة الشعبية، وحمى الله وطننا الحبيب من كل سوء...!!