على هيئة العربي الثائر للشّر والظلم، الساعي للأمن والاستقرار، تقدم جلالة الملك بخطوات ثابتة، متزنة، ليلقي خطابه أمام البرلمان الأوروبي، فاختزل جلالته عقودا من الزمن على مدى أقل من ربع ساعة من الوقت، فكان الخطاب متماسكا مركزا من حيث المضمون، ومتسعا من حيث الدلالات والمعاني، وواضحا من حيث المفردات، وشاملا من حيث الأبعاد والاهداف وملامسا لقضايا الواقع، طرح خلاله أسئلة افتراضية متأملا في إجاباتها، وتنقّل خلاله بين أكثر من محطة وموضوع بأسلوب خطابي سلس، مما أثار اهتمام الحضور، وكانت العيون إليه ترمقه، وإليه الاذان تطرب وتشتاق، وعكس هذا الاهتمام تلك الإشارات التي أوحت لأيادي الحضور بالتصفيق.
على حروف كانت بعض نقاطها قد سقطت أو أسقطت، وضع جلالته النقاط ليجّلي كثيرا من الحقائق، وكأنه بكل كلمة نطق بها كان يرسم ملامح الطريق، ويزيل اللثام عن أمر جلل، مما يعطي الايحاءات والدلائل على أن خطابه نسج من الحرير، وكتب بماء من الورد لتبقى آثاره منطبعة في الأذهان لوقت طويل، وليكون دستورا، وبرنامج عمل، ونبراسا يضيء عتمة الطريق والمستقبل للأمة والعالم أجمع، باعتباره يمثل الرؤيا الحكيمة والصائبة والعقلانية والتفكير العميق في زمن غابت فيه الحكمة، وانساق الناس نحو العواطف والانفعالات والمصالح.
خطاب جلالة الملك كانت كلماته مستوحاة من فهم عميق، وقراءة متفحصة لإيقاع الإقليم المضطرب وقضايا المنطقة، وتحديات المرحلة العالمية التي تمر بسلسلة من الأهداف المتعارضة والمتقاطعة، والمصالح المتباينة والمتنافسة والمتشابكة، فصّور خلاله الواقع كما ينبغي، وأعاد بناء ورسم ملامح المستقبل على نحو يضمن الاستقرار والسلم العالمي، ويضع العالم أمام مسؤولياته تجاه الملايين من الشباب والآباء والامهات، ويحقق الوئام والاحترام بين الشعوب، ويؤسس لمرحلة جديدة يسودها الاستشراف والانفتاح والاستقرار السياسي العام، ويلفها الأمل والتفاؤل بالقادم.
لقد استعار من الكلمات أعمقها، ومن المجاز أبلغه، ومن الكناية أقوى القواعد الدلالية، وبأسلوب تميّز بالحداثة الفكرية، مما منحه قدرة فائقة على التعامل مع النص لفظا وروحا، وعكس ثنائية رائعة من القدرة على إحداث التأثير، حيث الجرأة في الطرح، وسلاسة التواصل ومهارات الإلقاء، ومصداقية وصراحة الكلمات والخطاب الحضاري المتمدن، وهذا أنتج خطابا أخلاقيا رفيع المستوى، وعلى صلة وثيقة بالسياق السياسي، فأعلى فيه قيم التسامح والاحترام المتبادل والتعدد والمبادئ الإنسانية فكرا وممارسة.
وبفكر سياسي تنبؤي عبّر عنه بمجموعة من الأسئلة الافتراضية، حلّق جلالته في طرح قضايا المنطقة، وهو يحاكي كبار الفلاسفة وعلماء السياسة مشيرا إلى خطورة سياسات التسرّع، وما تخلّفه من آثار سلبية ضارة بالاقتصاد العالمي، تلك السياسات التي شبّهها بلعبة كلما أسرعنا بها زاد بعدنا عن خط النهاية، ويلمّح بذلك الى أن السياسة على هذا النحو تعمق الفجوة بين الدول والشعوب، وتنشر الخوف والرعب، وتشيع الأفكار المتطرفة والضلالية والإرهاب، وتقود إلى نشوء الأزمات والحروب والصراعات الداخلية.
وكعادته خرج جلالته بخطابه من النمطية السائدة في الخطاب السياسي إلى خطاب تضمن رموزا وأسئلة حملت الدلالات والمعاني العميقة، والتي تؤشر في جوهرها ومضمونها إلى أن الفهم الخاطئ للسياسة، والطرق الواهنة للمصالح، والضعف واليأس، وصراعات القوى والاطماع التي أثقلت كاهل المنطقة وأرّقت العالم أفسدت أخلاقنا، وذهبت بإنسانيتنا، وباتت تسيطر على تفكيرنا وعقولنا، وطغى الجانب السلبي المظلم على ما تبقى فينا من بذور الخير والانسانية، حتى انكشف المستور من عيوبنا، وبانت من جنبات الثوب عوراتنا، وغدت غاياتنا تبرر وسائلنا، وطريقنا الموحش المظلم الذي نشقه بين الجثث وأحزان الناس ومصائبهم للوصول إلى أحلامنا والتي أثبتت الأيام أنها في جلّها وأغلبها أحلام رومانسية وضرب من الخيال والوهم.