لغايات حفظ الأمن والنظام والتقيد بالقوانين والأنظمة والتعليمات يبقى التفتيش في غاية الأهمية والضرورة، ويسري على الكبير والصغير، على المدير والموظف، على المتنفذ والبسيط، فلا شيء يعلو فوق سلطة القانون، فالقانون هو الضمانة لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع الناس.
والدول الراقية تقّدس القانون، وبقوة القانون تَجري الأمور، وحفظ القانون والتقيد به هو ثقافة يَتِّم تنشئة النشئ عليها، فليس ثمة عداوة بين الإنسان والقانون، ولا الرجولة تكمن بالتمرد على القانون، بل القانون هو ضمانة حماية للأفراد وللمجتمع الذي يحفظ خصوصية الأفراد ويصونها، فيحمي من الإنزلاق في التعدي على حرياتهم وكرامتهم ويصون الجو العام.
فلا حرج علينا إذا أن نقف للتفتيش، لأنه نافذ بسلطة القانون. والهدف من ذلك هو حفظ النظام وضمانة الأمن والأمان. وغايات التفتيش تتعدد وتتنوع تباعاً لتطورات أحداث بعينها تستدعي التدقيق والتفتيش. قف للتفتيش!
ربما نحتاج اليوم إلى نوع آخر من التفتيش وهو تفتيش القلب والأفكار كما قال جاء في سفر المزامير "اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري..." ( مز 23:139). فالقلب والأفكار يصعب الغوص بداخلهما، ولا يقدر أحد على الغوص في قلب الناس وأفكارهم. فقط نتمكن رؤية أفعالهم الخارجية والتي أحياناً ما تكون مغلَّفة بنيات قلبية سيئة وأفكار شيطانية. لذلك ليس مظهر الإنسان الخارجي أو عمل ما يقوم به هو أساس الحكم عليه، فكم من أناس ظلموا لاعتبارات خارجية، وكم من أناس ظلموا من غير التبين لحقيقة القلب ونياته والعقل وأفكاره. فإن كان الإنسان ينظر إلى العينين فإن الله ينظر إلى القلب، ونظرة القلب أصدق تعبيراً وحكماً.
فما لا يراه البشر يراه الله تعالى، فهوَ من نسجنا في بطون أمهاتنا، ولم تختف عنه عظامنا، وهو الوحيد الذي يقدر أن يرى بعينه الإلهية أفكار قلوبنا ونياتنا. "فهو يعرف فكرنا من بعيد"، يعرفُ كلَّ طرقنا وحتى كلَّ كلمة قبل أن تكون على لساننا. هذا من يستوجب أن نقف أمامه للتفيش، عندها لن نقدر أن نلبسَ قناعاً غير وجهنا الحقيقي. فليس ثَمَّةَ هروبٍ أو مخرج، لأنَّ كلَّ شيء عُريان ومكشوفٌ لذلك الله معه أمرنا، فهو أي الله يعرف خفايا القلوب، ويعرف أسباب وخلفيات كل تصرفاتنا وأفعالنا. إذ أنَّ كثيرين ينصبون لنا شراكاً للإيقاع بنا، وتبدو في مظرها جذابة تماماً كمصيدة العصافير التي تستقطب الطيور لحبات القمح حتى تقع أسيرة المصيدة الليئمة التي نصبت لخديعتها.
إن معرفتنا العجيبة هذه والتي ارتفعت فوقنا وتسمو على قدرتنا ولا نقدر عليها تدعونا لأن ننقيَ سرائرَنا ونتفحصَ قلوبنا من كل عمل وقرار ومسلك نتخذُّه، لأننا وإن نفذنا من أجهزة تفتيش العالم، فلن نقدرَ ان ننفذ بريشنا أمام وجه الله ولن نقدر أن نهرب روحه القدوس الفاحص القلوب والكلى.