العمليات العسكرية لقوات الثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية وصولاً إلى دمشق – البعد العملياتي
اللواء الركن المتقاعد
الدكتور محمد خلف الرقـاد
مدير التوجيه المعنوي الأسبق
تهدف وكالة نيروز من خلال زاويتها الجديدة " ذاكرة وطن " إلى إلقاء الضوء على محطات تاريخية سياسية وعسكرية من خلال استعراض ذاكرة الوطن السياسية والعسكرية - وذلك لتعزيز الصورة الزاهية للتاريخ السياسي والعسكري للمملكة الأردنية الهاشمية وللثورة العربية الكبرى وللإنجازات الهاشمية منذ انطلاقة الثورة العربية الكبرى عام 1916م وقيام الكيان الأردني بإنشاء إمارة شرق الأردن عام 1921م ، وذلك سعياً لترسيخ البعد الوطني لدى قرائها الكرام ، والربط المتواصل بين الماضي والحاضر ، ليكون هذا النشر إسهاماً فاعلاً وموصولاً في أداء رسالة الوكالة الإعلامية الوطنية في مجالي التاريخ العسكري والسياسي للمملكة ، ولتكمِّل الجهد الإعلامي الوطني من خلال المنظومات الإعلامية والتعليمية في أردننا الأشم .
وستركز " وكالة نيروز" على نقل قرائها الكرام عبر صفحاتها في رحلة تاريخية سياسية عسكرية تثقيفية في إطار محاور إعلامية تعكس صوراً وأحداثاً وتاريخاً سياسياً وعسكرياً يعكس الشخصية الوطنية الأردنية ببعديها السياسي والعسكري ، حيث استندت هذه الشخصية منذ البداية على مباديء النهضة العربية الكبرى التي تزعّمها وقاد ثورتها المنقذ الأعظم الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه .
الحلقــــة 6 ـ العمليات العسكرية على الأرض الأردنية وصولاً إلى دمشق
تحدثنا في الحلقة الخامسة من ذاكرة وطن عن سير العمليات العسكرية (معارك الثورة العربية الكبرى) 1916 – 1918 على أرض الحجاز، وسنتناول في هذه الحلقة العمليات العسكرية على الأرض الأردنية وصولاً إلى دمشق بـ (بعدها العملياتي ) .
بعد أن استتب الوضع العسكري في الحجاز نعود بكم الآن إلى تفاصيل بعض المعارك التي خاضتها الثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية ، فبسيطرة الأمير فيصل على مدينة "الوجه" شمال الحجاز انتهت مرحلة من مراحل الثورة العربية الكبرى ، حيث تحولت الثورة من حالة تحقيق
التوازن الاستراتيجي مع القوات التركية إلى مرحلة الهجوم المعاكس الاستراتيجي بغية تحرير بلاد الشام والوصول إلى دمشق .
واصل الأمير فيصل الذي كان قائداً لجيش الثورة العربية الكبرى الشمالي زحفه نحو الشمال باتجاه مدينة العقبة التي كانت تتبع آنذاك للحجاز متوجهاً نحو بلاد الشام ، وقد استندت استراتيجيته العسكرية في تحقيق أهدافه العسكرية على مرتكزين أساسيين هما : الأول عسكري ويتضمن إعادة التنظيم ( حيث انضمت له قوات جديدة ) وإخضاع هذه القوات لفترة تدريبية مكثفة وقصيرة لرفع كفاءتها وقدرتها وتعزيز المهارات العسكرية لهذه القوة المتزايدة من خلال التدريب العسكري لها في منطقة الحشد في منطقة الأزرق ( وقد أصبحت اليوم مدينة ) ، والثاني سياسي يقوم على كسب ثقة قبائل بلاد الشام والوقوف إلى جانبه سياسياً وعسكرياً ، فاستقبل في مقر قيادته في مدينة الوجه عدداً من شيوخ القبائل والعشائر، ومن أبرزهم عودة أبو تايه شيخ التوايهة وهم بطن من الحويطات ، وقد وصف بعض المؤرخين عودة أبو تايه بأنه قبيلة في رجل ، وقد تم التفاهم بسرعة بين الأمير فيصل والشيخ عودة أبو تايه الذي أشار بمهاجمة مدينة العقبة جنوب الأردن ، وأبدى استعداده لاحتلالها برجاله .
كما أرسل الأمير فيصل سرية من قوات الثورة على رأسها الشريف ناصر بن علي ومعه عدد من زعماء الشام للاتصال مع القبائل الأردنية في مضارب بني صخر ، ومع مشايخ الكرك والدروز ومع نوري الشعلان ، ومع قبائل البلقاء وعرب حوران .
وكان الشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه قد تمكنا من تجنيد عدد كبير من المتطوعين زاد على (500) متطوع أغلبهم من قبيلة الرولة وقبيلة الحويطات ، ثم انطلقت هذه القوة من وادي السرحان زاحفة إلى الغرب ، وقد أغارت على خط سكة الحديد ودمرت جزءاً منه ، وواصلت زحفها مروراً بمنطقتي " الجفر " و " باير " جنوب شرق الأردن ، وعبرت خط سكة الحديد إلى الجنوب من معان ، ولم يكن بمخططها مهاجمة مدينة معان ، لكنها اشتبكت مع كتيبة تركية في منطقة " ابي اللسن " إلى الغرب من معان ، وتمكنت من قتل حوالي (300) رجل من القوة التركية الموجودة هناك ، وأَسَرَتْ حوالي (160) رجلاً منهم ، ورغم الجوع والتعب واصلت هذه القوة تحركها نحو العقبة ، وكان عودة أبو تايه يحث المتطوعين بلا هوادة على المسير ، واستولى خلال ثلاثة أيام على ثلاثة مواقع عسكرية تركية ، وفي يوم 6 تموز من عام 1917 هاجم العقبة ، واستولى عليها، وأصبح ثغر العقبة في أيدي هذه القوة . وكان محور تقدمها على الشكل الآتي : وادي السرحان – باير – غرب معان ( ابو اللسن) – العقبة .
لقد شكّل احتلال مدينة العقبة نقطة تحول في مسيرة الثورة العربية الكبرى ، حيث تم نقل مناطق العمليات العسكرية من الحجاز إلى بلاد الشام ، وأصبح الجيش الشمالي بقيادة الأمير فيصل هو الجناح الأيمن للقوات البريطانية ، لذا كان لسقوط العقبة ، واستيلاء قوات الثورة عليها أهمية عسكرية وسياسية كبيرة ، جعلت الأمير فيصل يتطلع إلى مزيد من الإنجازات العسكرية ، ويستعجل الإمدادات العسكرية والمالية من دول الحلفاء ، لكن الحلفاء أخذوا يقننون الدعم والإمدادات العسكرية خشية أن لا تتحول قوات الثورة العربية الكبرى في الجيش الشمالي إلى قوة معنوية وعسكرية وسياسية بيد الشريف حسين وابنه الأمير فيصل تحول دون تحقيق الأهداف التي رسمتها بريطانيا وفرنسا ، بمعنى أن تؤثر على اقتسام الغنائم فيما بعد بين الدولتين اللتين كانتا تخفيان على الشريف الحسين بن علي اتفاقهما على تقاسم المنطقة طبقاً لاتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة.
لقد فوجيء الأتراك بسقوط العقبة بهذه السرعة ، وصمموا على استعادتها ، وأرسلوا إلى عودة أبو تايه يغرونه بالمال والمناصب ، ولكنه رفض أن ينقض عهده مع الأمير فيصل ، فاسرعوا لحشد قواتهم في معان ، ومعهم بعض الطائرات ليزحفوا باتجاه مدينة العقبة في منتصف شهر آب من عام 1917م، ولكن عودة ابو تايه صدّ تقدمهم .
وفي خريف عام 1917 م دارت معارك بين القوات التركية وقوات الثورة في الجيش الشمالي في عدة مواقع منها معركة دلاغة والشوبك ووادي موسى ، واستمرت المعارك طيلة عام 1917 م ، حيث اشتبك العرب مع الأتراك في معركة حامية الوطيس قرب " القويرة " التي تبعد عدة كيلومترات عن العقبة ، وفي منطقة " وهيدة " ، وتمكنت قوات الثورة العربية الكبرى من الاحتفاظ بهما رغم شدة هجمات القوات التركية المعاكسة والتي لم تسفر عن تحقيق أي هدف من أهدافها التكتيكية ( التعبوية ) في ميادين المعارك الجارية .
وفي 23 تشرين الثاني من عام 1917 وصل الأمير زيد بن الحسين على رأس قوة كان قوامها (1500) مقاتل ليشكل الساعد الأيمن لشقيقة الأمير فيصل ، حيث تقدمت قوات الثورة العربية الكبرى نحو الشمال ، وخاضت المعارك مع القوات التركية في الطفيلة ومعان ، ومن أهم هذه المعارك معركة "جرف الدراويش" التي جرت في الثاني عشر من كانون الثاني عام 1918 م ، تلا ذلك استسلام الحامية التركية في الطفيلة في الخامس عشر من الشهر نفسه .
وفي أول آذار من عام 1918 تمكن الأتراك من استعادة الطفيلة ، إلا أن القوات العربية أعادت تنظيمها وضاعفت من الضغط على القوات التركية ، وتمكنت من استعادة مدينة الطفيلة مرة أخرى من القوات التركية بتاريخ 18 آذار 1918 م .
ومع فجر 11 نيسان من عام 1918 م هاجمت قوات الثورة العربية الكبرى الأتراك في مدينة معان ، واحتلت منطقة " غدير الحاج " ، ودمرت قضبان سكة الحديد ، ثم هاجمت محطة " الجردون " ومنطقة " تلول السمنات " التي تسيطر على مدينة معان من الجنوب واحتلتها ، وفي 17 نيسان هاجمت قوات الثورة العربية محطة معان وتمكنت من الاستيلاء عليها .
وفي أيلول من عام 1918 م كانت القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي تعتزم شن هجوم على الجيشين السابع والثامن التركيين في فلسطين ، وكان لا بد من التنسيق مع الجيش الشمالي الذي يقوده الأمير فيصل ، حيث كان يشكل الجناح الأيمن للقوات البريطانية التي تقاتل الأتراك في فلسطين ، وكان التخطيط العسكري بأن تتولى قوات الثورة العربية الكبرى في الجيش الشمالي مهمة تدمير خطوط المواصلات للقوات التركية بالهجوم الخاطف على سكة الحديد والجسور في مدينة " درعا " السورية ، التي كانت تعتبر حجر الزاوية في خطوط المواصلات التركية ، وذلك من أجل عزل الجيوش التركية في الأردن وفلسطين عن مراكز إمدادها وتموينها في دمشق ، على أن يتم تنفيذ المهمة قبل الهجوم البريطاني الكبير على الجيشين السابع والثامن التركيين في فلسطين .
وفي الوقت الذي ما زال فيه الأمير فيصل في منطقة " ابي اللسن " في معان يستقبل وفود عشائر البلقاء والكرك وجبل الدروز وحوران وقبائل البادية ، وصلت معونات عسكرية للأمير فيصل من الجنرال اللنبي بعد انتهاء عملياته العسكرية في صحراء سيناء ، ومن ضمنها جمال كثيرة وعدد من السيارات الإنجليزية المصفحة وبطارية مدفعية ، حيث تمكن من تأليف قوة عسكرية سريعة الحركة من جيشه النظامي الذي زاد عديده ليصل حوالي (8000) جندي ، وقد قرر أن يبقى الجيش النظامي في معان بقيادة الأمير زيد بن الحسين وجعفر العسكري ، وتحرك في أوائل شهر أيلول على رأس حملة زاد عددها على (600) جندي مع أربعة مدافع وأربعة رشاشات ثقيلة وعشرين خفيفة ومفرزة طبية وسريتا هندسة ، كما انضم إليه عودة أبو تايه ومعه مائة خيال من الحويطات ، وكان مقترب تقدم هذه القوة عبر منطقة " الجفر " ثم منطقة " باير " فمدينة الأزرق التي تبعد إلى الشرق من عمان بحوالي (85) كيلو متر، وقد اختارها الأمير فيصل كقاعدة متقدمة يعيد فيها تنظيم قواته ، ويخضعها لفترات قصيرة من التدريب لتعزيز قدراتها العسكرية ، حيث سينطلق بها إلى مدينة درعا السورية ، ثم إلى دمشق .
وفي الأزرق انضمت إلى الأمير فيصل مجموعات من قبيلة " الرولة " بقيادة نوري الشعلان ، ومجموعات من قبائل بني صخر والسرحان والسردية ، وكثيرون من أهل حوران وجبل الدروز حتى زاد عديد هذه القوة على ثلاثة آلاف مقاتل ، وقد حُددت مهمتها بقطع خطوط المواصلات والإمدادات التركية الواقعة إلى الشمال والغرب من مدينة درعا السورية .
وفي 12 أيلول من عام 1918 تحركت الحملة من الأزرق باتجاه درعا عبر منطقة " أم الجمال " و " أم طي " ، وقام رجالها بنسف جسر سكة الحديد القائم شمال مدينة المفرق يوم 16 أيلول ، ونزعوا قضبان السكة الحديدية ، فتعطلت المواصلات بين عمان ودرعا ، كما هاجمت قوات من هذه الحملة يوم 17 أيلول خط سكة الحديد إلى الشمال من درعا ، وتمركزت في منطقة " تل عرار " ثم استولت على " مزيريب " ، وبذلك تم قطع مواصلات الجيوش التركية مع فلسطين . حيث كان مقترب التقدم لهذه القوات على الشكل الآتي : الأزرق – أم الجمال – أم طي – أم السرب - - نصيب - تل عرار – مزيريب .
وقد تعرضت الحملة لهجوم بالطائرات شنته القوات الألمانية في منطقتي"أم طي" و" أم السرب" ، ولكن هذا القصف لم يؤثر على أهداف وسير الحملة ، كما تم نسف الجسر الكبير القريب من محطة " نصيب " مما اضطر الأتراك لإرسال قواتهم الاحتياطية من حيفا إلى درعا ، لكن حركة القوات التركية كانت قد شُلّت كاملة ، وتم تسهيل مهمة الجنرال اللنبي.
وبعد إنهاء الحملة لمهمتها اندفعت إلى الشرق حتى لا تتعرض لهجمات من الجيوش التركية المنسحبة باتجاه الشمال ، ولكن الأمير فيصل رأى استغلال هذه الفرصة ليسجل الدور الفاعل لقوات الثورة العربية الكبرى في هذه الحرب الضروس ، وليحفظ لها إنجازاتها من خلال دخول فرسان هذه الثورة مدينة دمشق ليل الثلاثين من أيلول عام 1918 م ، وفي مراجع أخرى فجر الأول من تشرين الأول ليرفعوا راية الثورة العربية الكبرى بألوانها المتوازية الأسود والأخضر والأبيض ، ويشمل الألوان الثلاثة مثلث أحمر عنابي ، وذلك في ذات المكان ( ساحة المرجة) الذي تم فيه نصب أعواد المشانق لأحرار العرب في دمشق ، وعلى الدوائر الحكومية ، وبذلك تكون قوات الثورة العربية الكبرى قد حققت أهدافها العسكرية بتحرير الحجاز وبلاد الشام من الاضطهاد التركي ، حيث أُسدل الستار على فترة الحكم التركي للأمة العربية ، وشرع الأمير فيصل بإنشاء حكومته في دمشق .