يصف دولة السيد مضر بدران في كتابه الذي صدر حديثا بعنوان " القرار " كيف كان يمارس عمله كوزير، عندما تولى حقيبة التربية والتعليم، قبل خمسة عقود، اقتبس منه الفقرات التالية :
" عندما أبلغني رئيس الوزراء زيد الرفاعي بتعييني وزيرا للتربية والتعليم تفاجأت وقلت : كيف لي بهذه المهمة، أنا أرفض الوزارتين وزارة الداخلية ووزارة التربية والتعليم ؟ وأنا أفضّل وزارة الشؤون الاجتماعية على التربية والتعليم. فرد عليّ الرفاعي : هذا قرار الملك حسين، اذهب واقنعه بتغيير رأيه.
بالمحصّلة وافقت، وحين تسلمت حقيبة التربية والتعليم في 26 أيار 1973. ونظرا لخلفيتي الأمنية، كان انطباع الكثيرين عن شخصيتي كوزير للتربية، حاد الطبع وقاس في الأوامر وحازم في القرارات، وهذا حقهم، فأنا قادم من دائرة المخابرات. حين ذهبت للوزارة بعد الانتهاء من مراسيم التبريكات والتهاني، كنت أخشى من طبيعة الهم الإداري والبروتوكولي، لأن أجندة الوزير عادة ما تكون مليئة بمثل هذه الاستحقاقات والمواعيد.
جلست على كرسي الوزارة، وطلبت نصيحة حكمت الساكت ( وكيل الوزارة )، فجاء لي بكل التعليمات والأنظمة التي تحكم عمل الوزارة، ثم أعطاني الكتب التي تستند لها الوزارة في كتابة المناهج المدرسية، أخذتها وعكفت على قراءتها في الأيام الأولى لي في العمل، وكنت لا أنام حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وأنهض للحاق بعملي في الوزارة قبل وصول الموظفين.
استطعت من خلال قراءتي أن أكتشف أن المشاكل الإدارية في وزارة التربية لا نهاية لها، وأن أهم أطراف المعادلة التعليمية في الأردن هي الطالب والمعلم المؤهل والكتاب والمنهاج والمبنى المناسب، وأن محور العملية التعليمية هو الطالب الذي تمثل زراعته بكل القيم التربوية والعلوم المعرفية أهم أنواع البناء. بدأت بالعمل على حل مشاكل المعلمين والتي كانت تتمثل بالرواتب القليلة أما جهدهم الذي يبذلونه، وأته بسبب هذه المشكلة يلجأون للإعارة خارج الأردن من أجل تحسين ظروف معيشتهم.
وللأمانة فقد قال لي حكمت الساكت، أن كل ما تم إنجازه من تعليمات وأنظمة وأسس في وزارة التربية، وهذه الدقة في التعامل مع كل المشاكل والمتطلبات الإدارية، يعود الفضل بها لوكيل الوزارة الأسبق نوري شفيق. وهي إنجازاته التي بنت الوزارة عليها كل ما يتخصّص بطبيعة عملها. كنت أمضي معظم وقتي في الوزارة، حيث أبدأ نهاري بالعمل الساعة الثامنة، ثم أعود للوزارة من الساعة الخامسة عصرا وحتى منتصف الليل، وكان هناك موظفون يعملون معي وتبقى الوزارة مضاءة، فالعمل داخل الوزارة لا يتوقف . . .
لقد قاتلنا من أجل أن تسير الأمور في سياقها الطبيعي، أذكر أن محمود الكايد رحمه الله رجاني ذات مرة، وطلب مني نقل ابنته والتي كانت معلّمة من الشونة إلى السلط، واشتكى من بعد المسافة عليها، فلبيت طلبه على الفور. ثم عاد إلي حكمت الساكت وقال إنني خالفت التعليمات، وسيفتح هذا الاستثناء الباب على عشرات الطلبات، فقلت له : لا أعلم أن الأمر كذلك، لكن لا استطيع أن أعود عن كلمة أعطيتها للكايد.
كان عاما دراسيا على وشك أن يبدأ، وبدأت الطلبات على مديرية تربية السلط تنهال، مطالبة أن يتم التعامل مع المعلمات في الشونة بالطريقة نفسها. وأذكر أن مدير تربية السلط كان ابن عمي فاروق بدران، وقد وضع كتاب قرار نقل ابنة محمود الكايد تحت زجاج مكتبه. وكان من يطلب منه نقل ابنته أو زوجته أو أخته، يقول لهم : اذهبوا واحضروا لي كتابا كهذا موقعا من وزير التربية.
كان ذلك خطأ ارتكبته، ففي إحدى المرات دخلت مكتب حكمت الساكت، وكانت عنده أم لمعلمة من إربد تعمل في معان. وكانت المعلمة الإبنة تستقل الباص لتصل إلى معان، ثم تستأجر حمارا لتصل للمدرسة بإحدى القرى النائية. وكانت الأم تبكي وحكمت يحاول أن يشرح لها أن الأمر ليس بيده، وأنها إن استمرت في البكاء فإنه سيبكي معها، فهو عاجز تماما عن مخالفة الأسس والتعليمات.
جلست وأنا أستمع للحوار، وبعد أن خرَجتْ الأم من مكتبه من دون تنفيذ طلبها، قلت لحكمت : أريد لكل الفتيات الناجحات في الثانوية العامة من محافظتي الطفيلة ومعان، أن يذهبن ببعثات على حساب التربية والتعليم، وأريد لهن أن يملأن شواغر المعلمات في مدارس مناطقهن، واتخذنا القرار بهذا الشأن ". انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق :
1. هكذا يكرس رجل الدولة جهده لبناء نفسه وخدمة وطنه ومواطنيه. جاء مضر من بيئة مختلفة في طبيعتها عن بيئة العمل الوظيفي المدني الذي أسند إليه، ولكنه تأقلم مع عمله الجديد، وطور فيه مناح كثيرة بكل تجرد ونزاهة، لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
2. عندما جلس مضر على كرسي الوزارة، لم يخجل في أن يسأل وكيل الوزارة عن طبيعة العمل ليتعرف عليه، وبالمقابل لم يبخل عليه الوكيل بتقديم كل ما من شأنه أن يساعد الوزير في الإلمام بالعمل الجديد.
3. وكيل الوزارة كان جريئا في إبلاغ الوزير بخطئه، عندما وافق على نقل المعلمة من مدينة إلى أخرى، كما أن الوزير تقبل هذا النقد بروح رياضية، دون أن يغضب على وكيلة أو يحاول نقله أو إنهاء خدماته. فالتعليمات والأنظمة كانت عند وكيل الوزارة دستورا مقدسا لا يجوز مخالفته بأي حال من الأحوال. وهذه هي أمانة المسؤولية التي طبقها مسؤولوا الماضي، والتي نفتقدها هذه الأيام.