بداية أترحم على روح المشير فتحي أبو طالب، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق، الذي ترك كرسيّه فارغا من بعده. ولكن قبل أن أتحدث عن ذكرياتي معه، التي كان يشوبها نوع من التناقض أشبه ما يكون بنوع من مناكفة الرجال للرجال. وإن كنت هنا سأبين بعض الخلافات بينه وبيني، إلاّ أنني احترمته كرجل كانت له مكانته وهيبته بين العسكريين والمدنيين، وكتبت به عند وفاته رثاء يستحقه. ومن المعروف كتابة الذكريات لا تعني الانتقاص من شخصية المكتوب عنه، بل هي تاريخ لأحداث حقيقية في زمن مضى لا بأس من إطلاع الناس عليها.
ففي أواخر عام 1979 نُقلت من منصبي مديرا للتخطيط والتنظيم في القيادة العامة للقوات المسلحة، لأصبح قائدا للقوات الخاصة برتبة عقيد، والتي كنت قائدا لإحدى كتائبها في أوائل عقد السبعينات وهي كتيبة المظليين 91. واعتبرت ذلك شرفا لي في قيادة هذه التشكيلة الهامة، من تشكيلات قواتنا المسلحة. وفي هذه الحالة شعرت بأن مسؤولية كبرى ألقيت على كاهلي، فمن واجب هذه التشكيلة أن تكون قادرة على العمل أمام وخلف خطوط العدو الإسرائيلي. ولهذا يجب أن تكون على مستوى عال من الكفاءة القتالية، الأمر الذي يفرض عليّ أن أصل الليل بالنهار، لإعدادها لهذا الواجب الذي ينتظرنا مستقبلا.
كان عيد تشكيل القوات الخاصة يصادف بتاريخ 22 / 4 من كل عام، ومر عيدها في عام 1980 باحتفال بسيط لم أتمكن من التحضير له بشكل جيد نظرا لحداثة استلامي قيادتها. أما في العامين اللاحقين فقد أجريت خلالهما احتفالين يليقان بهذه التشكيلة المميّزة والتي دمّ اسمها هذه الأيام. فكان جلالة الملك حسين رحمه الله يحضر الاحتفال بعيدها كل عام، حيث يدعى لحضوره كبار الشخصيات المدنية والعسكرية.
كنت أحرص على أن لا يكون هذا الاحتفال بروتوكوليا تجري به الدبكات وإلقاء القصائد الشعرية، بل كنت أحاول أظهار بعض القدرات العملية للقوات الخاصة، أمام الحضور المدنيين والعسكريين. في عيدها عام 1981 أجرينا الاحتفال في منطقة العالوك غربي مدينة الزرقاء. اشتمل الاحتفال على العديد من النشاطات كان من أهمها تنفيذ مهمة خاصة بالطائرات العمودية خارج الحدود.
وخلال إجراء البروفات دون جنود، كنت أركب في إحدى الطائرات الثلاث المخصصة للعملية، وحاول قائد الرف تدريب الطيارين على الطيران المنخفض من خلال الأودية، تجنبا للكشف من قبل رادارات العدو في حالة العمل الحقيقي. وخلال تسلل الطائرات في أحد الأودية ضربت مروحة الطائرة التي أركبها في أغصان شجرة بلوط، فاختل توازنها وسقطت على الأرض وحدثت بها بعض الأضرار المادية. ولكن أجري الاحتفال بعد بضعة أيام بحضور جلالته وكان على ما يُرام.
في عام 1982 كتبتّ فقرات الاحتفال الذي أنوي إقامته على سدّ الملك طلال، وذهبت إلى رئيس الأركان فتحي أبو طالب، لإطلاعه على ما أنوي عمله في الاحتفال بعيد القوات الخاصة بعد عشرة أيام. ولكن فتحي رفض أن يطّلع على الورقة، وطلب مني أن أرفع كتابا رسميا بذلك، كما كان يفعل هو عندما كان قائدا للفرقة المدرعة الخامسة. فقلت له أنني أنا الكتاب الرسمي وأحمل برنامجي ولا يوجد لدي متسع من الوقت لإجراء البروفات، إلاّ أنه أصر على رأيه. عدت إلى قيادتي غاضبا بنيتي أن لا أقيم الاحتفال.
بعد يومين علمت أن فتحي قد غادر الأردن بزيارة خارجية، فحملت ورقتي وذهبت بها إلى القائد العام الشريف زيد بن شاكر، وأطلعته على محتواها الذي تضمن عملية كوماندو أرضية، وعملية محمولة جوا بالطائرات العمودية، وعملية بحرية تطبق على الجانب الآخر من السد، ثم يتم إخلاء منفذيها من مياه السد بطائرة عمودية، وعملية هبوط لفريق القفز الحرّ أمام الحضور، إضافة لبعض النشاطات الأرضية الأخرى. فقال لي سيادته بعد أن استحسن ذلك البرنامج، هل تستطيع أن تنفيذه بكفاءة ؟ فأكدت له ذلك ثم بارك العمل. وفي اليوم المحدد جرى تنفيذ الاحتفال تحت رعاية جلالته على أكمل وجه وبلا حوادث.
بتاريخ 24 / 4 / 1982أي بعد يومين من الاحتفال، كتبت طلب استقالتي من القوات المسلحة، وأرسلته مع سائق دراجة إلى مكتب القائد العام، الذي كان يشغله العقيد الركن يوسف الدلابيح. وفي اليوم التالي اتصل معي يوسف وقال أن سيادته يرغب أن تحضر لمقابلته الساعة التاسعة غدا. ذهبت في الوقت المحدد وعندما دخلت لمقابلته طلب من الجلوس بجانب طاولة مكتبه، وسألني لماذا قدمت هذا الطلب ؟
فقلت له أنني قدمت هذا الطلب ليس للاستعراض ولا لأعرف مكانتي عندك، فعندما دخلت الجيش لم أتوقع أن أصل لأكثر من رتبة رائد، وها أنا اليوم أحمل رتبة عميد لم أحلم بها من قبل، ولا أريد أن اترفع لرتبة لواء وأصبح باشا، لأنني أنوي العمل بعمل خاص بسيط، وليس لدي فكر في الذهاب للعمل في دول الخليج أو غيرها.
وعلى صعيد الوظيفة فقد أشغلت جميع الوظائف القيادية والإدارية التي تتناسب مع رتبتي المتدرجة خلال خدمتي الماضية، وآخرها وظيفتي الحالية قائدا للقوات الخاصة، والتي أحسبها تعادل مستوى قائد فرقة. وطالما أنه لم يعد لدي طموح إضافي في الرتبة والوظيفة، فمن الأفضل لي أن أغادر الخدمة. فسألني هل من سبب آخر لديك ؟ قلت له كلا لا يوجد لدي أي سبب خلاف ذلك.
ظهر الغضب على وجهه السمح وقال لي " روح ". قلت له إلى أين ؟ قال إلى قيادتك، فقلت : سيدي هذه الطلب بين يديك، ومتى أردت أن تنفذه في أي وقت ستجدني جاهزا لتقبله، ثم ودعته بتحية عسكرية وخرجت من مكتبه.
بعد بضعة أيام اتصل معي بينما كنت في قيادتي بالزرقاء، صديقي قائد لواء الملك حسين العميد الركن فاضل علي فهيد، والذي كان مديرا أسبق لمكتب الشريف زيد لفترة طويلة ويثق به كثيرا، وطلب مني عند مجيئي إلى عمان أن أزوره في قيادته لبضع دقائق.
لبيت طلبه وزرته بعد بضعة أيام، فسألني عن السبب الحقيقي لتقديم كتاب استقالتي للقائد العام. فقلت له بصراحة أن السبب هو رئيس الأركان فتحي أبو طالب، وبينت له كيف تعامل معي عندما طلبت منه موافقته على برنامج احتفال القوات الخاصة، وما سبقه أيضا من ملابسات حدثت بيني وبينه. فقال لماذا لم تصارح القائد العام بذلك ؟ فأجبته بأنني لا أرغب أن أكون سببا لوقوع إشكال بين القائد العام ورئيس أركانه. وأعتقد أن صديقي قد نقل تلك الرسالة إلى سيادة القائد العام.
ولا يسعني اليوم إلاّ القول : رحم الله أبا شاكر وفتحي أبو طالب وأسكنهما فسيح جناته.