الخرق بدأ يتسع، والمخروق مغلوب على أمره، والنفوس بدأت تضييق، والبطون لاعت من الحديث عن الفساد وأهله، وأخذ الإحباط يتسرب إلى قلوبنا، وربما أريد لنا ذلك لحد الاستسلام والرضا بالواقع، ويظن بعض الغارقين في الأحلام والأوهام أننا نسير فبي الاتجاه الجاد والصحيح في مكافحة الفساد، في حين أن المؤشرات لا توحي بذلك، وبتنا نغرق أكثر يوما بعد يوم، وهذا يؤشر الى أننا نفتقد الى المصداقية والجدية في التعامل مع هذا الملف.
التصريحات الحكومية بهذا الخصوص ما هي إلا خطاب رث وترويج لسلع مكشوفة ورخيصة من الوهم، وضحك على الذقون، ورش للزفت في العيون، ولا تعدو كونها قرقعة لسمين متخم يجلس على البلاط، فكل الحكومات المتعاقبة قالت لا حصانة للفاسدين، لنكتشف فيما بعد أنها كانت حضانة لهم، في حين تذهب بعض وسائل الإعلام المأمورة والمأجورة لتسويق وتسويغ تلك التصريحات تطبيلا وتزميرا لتزييف الوعي والترويج لإنجازات واهنة ووهمية غير آبهة بأهمية دورها في المجتمع.
مطالبات ظالمة خبيثة بالعفو عن الفاسدين والتسامح معهم، وفتح صفحة جديدة معهم وعفا الله عن ما مضى من الفساد، وتسويات أكثر خبثا وظلما يدعو لها البعض تفضي الى استرجاع حفنة من المال من الفاسدين وتركهم وشأنهم وكأن شيئا لم يحدث، وما ذلك إلا كلام عبثي يراد به الباطل وتعطيل سير العدالة، وتهوين للفساد حتى يصبح سائغا شرابه.
ديوان المحاسبة الذي كان غائبا على مدى سنوات مضت نفض غبار الخوف واسترجل في الاشارة إلى عدد من التجاوزات، إلا أنه كان أكثر لطفا ونعومة وأدبا في تقريره عندما ساوى بين مخالفات السير وقضايا الفساد بوصفها بالتجاوزات والمخالفات، وكأننا أمام فساد ناعم يتطلب أمنا ناعما، وخطابا لينا نستعطف فيه لوبيات الفساد على استحياء.
يطالب البعض من أصحاب القلوب البيضاء والضمائر الحية الفاسدين بأن يستحوا ويخجلوا من الله، ومن المواطنين، وكل هذه الدعوات والمطالبات وإن كان ظاهرها الخير تشكل اعتداء صارخا وانتهاكا لحقوق المواطنين الذين طال صبرهم وأوشك على النفاذ وهم ينتظرون أن يروا حدا للفساد، وأن تطمئن قلوبهم وقد ذاق الفاسدون أشد انواع العذاب والعقاب الرادع قبل أن يطفح الكيل عندهم ويضطرهم لامتلاك زمام الأمور بأنفسهم، وهذا ما لا نتمناه لسوء عقباه، وحتى لا ندخل في أتون الفوضى والانتقام كما حصل في بعض دول الجوار لا سمح الله.
وتروج بعض أقلام المثقفين التي يستهويها التنظير والتكسب إلى أن محاربة الفساد تحتاج إلى وقت طويل وأن الطريق صعب، ويحتاج إلى اصلاحات في منظومة القيم التي اصابها الخلل، وأن علينا الانتظار لسنوات وربما عقود قبل استئصال الفساد والفاسدين، وهم بذلك يريدون أن يدخلونا إلى نفق مظلم، يستنزفون خلاله قوانا الفكرية، ويقتلون عندنا أية بارقة أمل، ليمنحوا الفاسدين هدنة طويلة تجعلهم يفلتون من العقاب بالتقادم أو التقاعد أو الموت، وصولا إلى بر الأمان من نتائج جرائمهم.
لن تستقيم الأمور، ولن يهدأ للأردنيين بال إلا بمحاسبة الفاسدين وقض مضاجعهم دون تسويف أو مماطلة، ودون خوف أو تردد وايجاد السبل السريعة والكفيلة بالخروج من هذا المأزق، ومن هذا النفق المظلم فقد نفذ صبر المواطنين، وطفح الكيل وبلغ السيل حدود الخطر.