بتشبيك اليدين توترا، وضمهما بقوة قلقا وتوترا، وقد بدا عاقد الحاجبين، وبملامح غاضبة، عبّر عنها بدق الطاولة على نحو متكرر وبوتيرة سريعة، ونبرة صوت قوية، ومفردات عاتبة تخرج من قلب يعتصره الألم، بدأ جلالة الملك حديثه المقتضب عالي التركيز أثناء ترؤس اجتماع مجلس السياسات الوطني.
بكلمات عفوية خلت من التكلف، زيّنتها عبارة (خلص، بكفي)، والتي طالما رددها الأردنيون بصوت عال وبمرارة، ولم تجد الآذان الصاغية لها، واستخدم في حديثه ياء الملكية، عندما كرر كلمة بلدي أكثر من مرة، وهي دلالة على أن الوطن هو الأولوية.
كان حديثه يعبر عن الاستياء والرافض لما يحدث، ولم يلامس حديثة بدلالة تعبيراته حالة اليأس والقنوط مما يجري، حيث لم يخفي ثقته بالمواطن الأردني، وتفاؤله المشروط بمستقبل أفضل للبلد.
استخدم جلالته الفعل المضارع في معظم حديثه (بدنا، بدأنا، نفتح، نشتغل، نحاسب، نعمل...الخ)، وكثرة استخدام المضارع دلالة على ما يحدث في الحاضر، وصعوبة الواقع، وضرورة التصدي والمواجهة.
مفردات كثيرة استخدمها جلالته للدلالة على تردي الأوضاع الراهنة (الإهمال، الواسطة، المحسوبية، الفساد، بكفّي، خلص، مقصّر، اغلاق أبواب الفتنة...الخ).
لقد شخّص جلالته المشكلة والداء، وبدا واعيا مدركا لما يجري، وقد أشار إلى الدواء عندما وجّه لتنظيف المؤسسات، ومحاربة الإهمال في مؤسساتنا، ومحاسبة المقصرين، والعمل لمصلحة الوطن، والتسلح بالوعي، والعمل بروح الفريق الواحد، وخدمة الوطن بإخلاص، والحثّ على مخافة الله.
لقد آن الأوان للخلاص من وضع بات فيه الحليم حيران وصامت وواجم ومكتوف اليدين، وآن الأوان للعمل نحو التغيير الجذري في الفكر والممارسة الإدارية والقيادية، اكتفينا من العبث والاستهتار، نريد التخلص من العقول المستبدة، والقيادات المتحجرة، المتمترسة خلف السطوة والنفوذ والمصالح، والتي تحتمي بستار الجهوية والفئوية، ذات النمط الأحادي، فقد ولّى زمنها واندثر، ووصلت حد العفن والقرف رغم ما فيها من ترف.
الوطن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قيادات وفيّة لرسالتها ومبادئها، وواعية ومتواضعة تعتمد على التحول الدائم والمستمر في السلوك وردود الأفعال، تستجيب للمواقف الداخلية والخارجية، وتتميز بالإبداع، والمنهج الإداري المتكامل، والقادرة على بناء فكر استراتيجي يقود إلى التغيير والإبداع، ويحفّز على الابتكار.
الوطن بحاجة إلى قيادات غير تقليدية، يتسلحون بالعلم والعمل والأمانة، ورجال مقبولين لدى الشعب، يحملون معهم صورا ايجابية في أذهان الناس عنهم، لا ضالين ولا مضلين، يركبون مع غيرهم من المواطنين سفينة الوطن، يحملون هموم غيرهم، يجوعون حيث يجوع الناس، يتألمون لألمهم، يمشون في مناكبها حيث يمشي غيرهم من غير تكبر أو استعلاء، يلتف الجميع حولهم من أجل وطن أكثر جمالا، وأكثر أمنا واستقرارا، وازدهارا،،، خلص بكفي...