في 13 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2003، ألقت قوة كوماندوس أميركية القبض على الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي اختفى من الصورة مباشرة عقب سقوط العاصمة بغداد. وكان البحث والقبض عليه من أولويات القيادة الأميركية السياسية والعسكرية، خصوصاً بعد أن تفاقمت العمليات التي تستهدف هذه القوات في عدد من المناطق العراقية. ورأى الجميع مشهد صدام وهو يخرج من حفرة ضيقة مغطاة بالحشائش والتراب والرمل كان يختبئ تحتها فيما يشبه الغرفة البدائية المحفورة تحت الأرض التي كان يصل إليها الهواء من خلال أنبوب بلاستيكي. صدام كان ملتحياً، «منكوش» الشعر، لا يبدو عليه الخوف، بل الاندهاش، وحوله أفراد قوة «دلتا فورس» الأميركية التي كانت مكلفة بالقبض عليه.
لكن حتى تاريخه، لم يجرؤ أي من العسكريين الذين شاركوا في العملية على الكشف عن التفاصيل التي أفضت إلى القبض على المطلوب الأول للقوات الأميركية (من بين 55 مطلوباً) في المحلة المسماة «الدور» في منطقة تكريت المناصرة تقليدياً لحكم صدام، وذلك بسبب القانون الأميركي الذي يأمر بكتم التفاصيل حتى عام 2028، بيد أن الرقيب أول كيفين هولاند، تجرأ وكسر الحظر، وذلك من خلال تسجيلات بودكاست مسماة بالإنجليزية «Danger Close» المخصصة للشؤون العسكرية الأميركية، والتي يديرها الضابط السابق في القوات الخاصة الأميركية جاك كير. وقد نجح الأخير في إقناع العسكري كيفين هولاند بأن يتحدث، لا بل أن يكون حديثه مصوراً، وذلك في 9 ديسمبر الماضي. وأخيراً، أفرج كير عن «شهادة» هولاند. ونقلت صحيفة «لو فيغارو» قبل يومين بعض تفاصيل هذه الشهادة، علماً بأن العدالة الأميركية لم تحرك حتى اليوم ساكناً، ولم تلاحق أياً من الشخصين المسؤولين عن كشف أحد أهم الأسرار التي بقيت طي الكتمان عقدين من الزمن، خصوصاً هوية الشخص الذي «باع» الرئيس العراقي الأسبق.
تتّبع قيادة العمليات العسكرية الخاصة التي يقع مقر قيادتها في مدينة تامبا في ولاية فلوريدا، نهجاً صارماً يمنع أياً من أفرادها من الحديث إلى الصحافة بأي شكل من الأشكال، لكن يبدو أن كيفين هولاند أراد المخاطرة كأن سراً دفيناً يجثم على صدره ولم يعد يحتمل التستر عليه؛ لذا تحدث وفصّل وأطال.
9 أشهر انقضت منذ سقوط بغداد وبقي صدام حراً طليقاً. وآخر ظهور له تم يوم 9 أبريل (نيسان) وقد اعتلى سطح سيارة ليخاطب جمهوراً من العراقيين عندما كانت الدبابات الأميركية على مداخل العاصمة. القيادة الأميركية كانت قد أطلقت عملية «الفجر الأحمر» للقبض على صدام، وخصصت مكافأة كبيرة لمن يوفر معلومات تُفضي إلى القبض عليه، والأهم أن آلافاً من الجنود والمخابرات (كيفين هولاند ذكر أن العدد يصل إلى 30 ألف رجل من المشاة) قد جُندوا لهذه المهمة، إضافةً إلى مجموعة ضيقة من «قوة دلتا» بينهم هولاند، ولكن كل ذلك بقي دون طائل حتى تمكنت هذه القوة من وضع اليد على أكثرية حرس صدام الخاص، والأهم أن من بينهم كان م. إ. م. الذي يصفه هولاند بأنه كان «الأقرب» لصدام. ووفق رواية هولاند، فإن م. أعطى جميع التفاصيل عن مكان اختباء صدام في قرية «الدور» المطلة على نهر دجلة والواقعة على بُعد 10 كلم من تكريت، وذلك في مزرعة معزولة تقود إليها طريق مستقيمة تقوم مجموعة من الرجال بمراقبتها لتجنب أي مفاجأة.
ويؤكد الراوي أن م. رافق القوة الأميركية وقادها إلى مكان اختباء صدام الذي بلغته في الثامنة والنصف مساءً. ويصف هولاند عمل المجموعة التي بدأت برفع الحشائش والتربة
ووصلت إلى لوح بلاستيكي مقوى نزعته فظهرت تحته كوّة الحفرة البالغ عمقها 3 أمتار. ومن أجل تلافي أي مفاجأة أو فخ، لم يتردد أحد أفراد القوة من استخدام قنبلة فُجرت في الدهليز. بعدها، تأكد للفرقة التي استخدمت أنوار أسلحتها الكشافة، أن صدام يختفي في هذا المكان. ولمزيد من التفاصيل، يسرد هولاند أنهم أنزلوا كلباً بوليسياً إلى الحفرة، لكنه تراجع خوفاً.
كانت المفاجأة عندما سمعت القوة صوتاً قادماً من تحت الحفرة، ورد عليه المترجم الملحق بالقوة بالعربية، ثم رأت القوة يدين تمتدّان إلى الخارج، ثم برز رأس صدام وجسده، وصرخ أحدهم: «يا للهول، إنه صدام!». بعدها أُخرج صدام من الحفرة التي خرج منها وهو يحمل مسدساً من طراز «غلوك 18». وما إن أصبح في متناولهم، يروي هولاند، حتى وجّه إليه أحد أفراد الفرقة ضربة قوية على وجهه لشل حركته. وبعد أن استعاد صدام امتلاك أعصابه، توجه إلى الجنود الأميركيين بالإنجليزية قائلاً: «أنا صدام حسين، رئيس العراق، وجاهز للتفاوض». وجاء الرد عليه: «سنرى ذلك لاحقاً يا أخ». وأضاف أحدهم: «الرئيس بوش يرسل إليك تحياته». بعدها، نُقل صدام بطوافة إلى تكريت، ومنها إلى بغداد بعد أن أُخذ منه مسدسه الذي قُدم لاحقاً للرئيس بوش الابن. والمسدس موجود اليوم في المكتبة التي تحمل اسم الرئيس الأسبق في مدينة دالاس.
يؤكد هولاند أنه شخصياً مَن نزل إلى الغرفة التي كان يختبئ فيها صدام، مستعيناً بالضوء المثبت على مسدسه، إلا أنه عاد للخروج ليطلب مسدساً آخر لتحسين الرؤية. وفي وصفه للغرفة، يقول إنها بطول مترين وكافية ليتمدد فيها رجل على أريكة بسيطة، وسقفها كان مسنوداً بألواح خشبية، ومزودة بمروحة. وعمد هولاند إلى تصوير مقطع فيديو قصير بثته شبكة «فوكس نيوز». ووفق المعلومات التي جمعها الطرف الأميركي من المخبرين، فإن صدام كان يقضي غالبية وقته في الخارج، وتحديداً في المزرعة القريبة من الحفرة، وإن اثنين من حرسه الخاص كانا يتوليان مهمة الطبخ.
في الطوافة التي نقلته، استعاد صدام رباطة جأشه «عندما تبين له أنه لن يُقتل». ولأن العسكريين الذين كانوا معه في الطوافة خافوا من أن يقفز منها للإفلات من الأَسر؛ فقد أحاطوا به بقوة ومنعوا عنه أي حركة. وفي التفاصيل، يقول هولاند إن أحد أفراد الفرقة كان يمسك بشعره من الخلف وآخر بلحيته من الأمام. وحسب هولاند، فإن الخلاصة التي توصل إليها الجنرال ريكاردو سانشيز، بعد أن زار صدام في سجنه، أن الأخير «متعاون وراغب في الحديث ومتقبل لمصيره»الشرق الأوسط