يتكثف عبق الخلود ليلة الإسراء والمعراج فتجتاح المؤمنين نفحات من نور الرحلة العظيمة، الرحلة التي حدثت في مثل هذه الليلة في 27 من رجب لتغزل الرباط الذي لا تنفصم عراه بين المكانين المقدسين في الوجدان العربي والإسلامي.
تلك الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - إلى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم-، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعًا، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتتضمن الكثير من المعاني والدلالات.
فقد اقتضت حكمته تعالى، أن يمر الرسول الكريم بالمسجد الأقصى المبارك، كي يبشره ويبشر المؤمنين بانتصار يؤدي إلى عالمية الإسلام وتغلغله في أكثر المناطق صراعًا بين الحق والباطل.
ذلك المسجد الأقصى، نبض قلب الإسلام، والذي يسكن في وجدان الأمّة، وهو محط اهتمام وقرة عين جلالة الملك عبدالله الثاني والهاشميين، انطلاقًا من وصايتهم الهاشمية التاريخية على المقدسات الدينية.
وارتبط الهاشميون جيلاً بعد جيل، بعقد شرعيّ مع تلك المقدسات، فحفظوا لها مكانتها، وقاموا على رعايتها، مستندين إلى إرثٍ ديني وتاريخي، وارتباطٍ بالنبي العربي الهاشمي محمد صلّى الله عليه وسلم، فأحاطوها بالرعاية اللازمة، ونذروا أنفسهم لها، فبقيت على رأس أولوياتهم، مسخّرين جميع الإمكانيات المادية والكفاءات والثقل السياسي والعلاقات الدولية لمتابعة كافة شؤون ومتطلبات المسجد الأقصى، وقد توالت الإعمارات الهاشمية، باقين على العهد في صون أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهو ما أكّد عليه جلالته حاملًا راية الدفاع عن القدس ونصرة مقدساتها في خطاب العرش السامي، خلال افتتاح الدورة غير العادية لمجلس الأمة التاسع عشر في 10 من كانون الأول 2020: (نحن لم، ولن نتوانى يومًا عن الدفاع عن القدس ومقدساتها وهويتها وتاريخها، فالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، فهي واجب والتزام، وعقيدة راسخة، ومسؤولية نعتز بحملها منذ أكثر من مئة عام).
وإلى جانب الرعاية الهاشمية للمقدسات في القدس، خاض الأردن وجيشه العربي انطلاقًا من مسؤولياته الوطنية والقومية، معارك بطولة وفداء، لتسطر ذكراها العطرة بماء من ذهب، راسخًا ثابتًا في وجدان أمّة أصرّ القادة الهاشميون أن يعيدوا مجدها وألقها، فكانت خطاهم مباركة، يتردد صداها في العالم بأسره.
أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور بسام العموش، يلفت إلى عِظم حدث الإسراء والمعراج، باعتباره جزءًا من عقيدة المسلمين، حيث سجل حدث الإسراء في القرآن الكريم، وتسمت سورة قرآنية بالإسراء.
وقد جاء حدث الإسراء بعد ازدياد شراسة المشركين الجاهليين في مكة والطائف، فكان الإسراء لرفع معنويات النبي - صلى الله عليه وسلم- ولبيان مكانة الصلاة في الإسلام ولربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام والتأكيد على أن رسالات الأنبياء واحدة وهي التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وفقًا للعموش.
ويبين، أن هذا حدث فيه البشرى بنصر الله القادم، وهو ما كان حيث صارت مكة قبلة المسلمين، ودخلت الطائف في الإسلام، وهلك المشركون في مكة، ونجا منهم من نجا بدخول الإسلام.
ويلفت إلى أن هذا الحدث يبقى لنا بارقة أمل بأن عين الله لا تنام، وأن العاقبة للمتقين مهما طال الزمن، وهذا هو اليقين الذي يجعل أملنا باقيًا ومستمرًا في القضية الفلسطينية ونصرة المسجد الأقصى.
ويستذكر العموش في هذا السياق، أنه لا بد من التأكيد على الدور الأردني المتمثل في الوصاية الهاشمية على المقدسات، والتي اعترف بها العالم كله، فاستقرت فلسطين وقلبها القدس في محنتها تحت الاحتلال، ثابتًا لا تحيد عنه السياسة الأردنية منذ عقود طويلة، ذلك أن علاقة الهاشميين والأردنيين بفلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، علاقة متجذرة تاريخيًا ودينيًا ووجدانيًا.
أستاذ الحديث الشريف وعلومه ومساعد عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة اليرموك الأستاذ الدكتور سعيد بواعنة يقول، إنه في رحاب ذكرى الإسراء والمعراج الشريفين يجتمعُ ذلك كلُّه بأبهى صورة وأروعها متجسدًا بأحرف مضيئة في سيرة خير البريّة صلى الله عليه وسلم، وتسطعُ مقدّماته ألقًا في رحلته الدعوية - عليه الصلاة والسّلام- إلى الطائف متجاوزًا فيها حزن الذات، ومرارة الفقدِ يتابع نشر رسالة التوحيد؛ ليفتح بها قلوب العباد، ويهديها سبيل الرّشاد؛ فيرى الناظر منه - صلى الله عليه وسلم- ثباتًا ويقينًا، وإيمانًا وتوكلًا، وعزيمةً وإصرارًا، وتضحيةً وفداءً، وصبرًا ومصابرة، ورضًا وسكينةً.
وكلُّ ذلك تأسيس منه -صلى الله عليه وسلم- لمعاني القوة، والنصر، والتمكين وإذكاء لدورها في بناء الأمُّة وسموها، وتأكيدٌ منه - صلى الله عليه وسلم- على صِدق وعْد الله -عز وجل- بحتميَّة مَجيء اليُسر بعد العسر، والفرج بعد الشدّة، والنور بعد الظلام، والهداية بعد الضلال؛ إذ الثباتُ في المِحَن بَوَّابَةُ المِنَح.
بواعنة، وهو عضو جمعية الحديث الشريف وإحياء التراث وعضو رابطة علماء الأردن، يشير إلى أنها الذكرى الخالدةُ المتجدّدةُ التي حملتْ في طيّاتها أسمى المعاني وأجلِّها؛ فمن أقدس البقاع تبدأُ رحلةُ الآيات الربانية لتعانق مكةُ القدسَ الشريف، ولتلتحِمَ الكعبةُ المشرفة مع المسجد الأقصى في ثنائية رباط خالدةٍ عبر الزمن تروي قصّة التوحيد ومهبِط الوحي، وتحكي صدى رسالات الأنبياء الخالدة، وصفحاتهم النّورانية في تجليات فريدة تتقاصرُ عن بلوغ مقامها، ووصفها الحروف والكلمات.
ويضيف، لقد أُسْري في هذه الليلةِ الغراء روحًا وجسدًا بأنبل بني البشر، وأشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم- في رحلةٍ علوية يرافقه فيها أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ ليتجلّى مشهد التكريم في ثوب العُبوديَّة الحَقَّةِ، وليكون -صلى الله عليه وسلم- همزة الوصل بين أشرف بقعتين على وجه الأرض وبين السماوات العُلا: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: آية 1] مبينا أنه في الآية الكريمة يتجلّى للناظر المتأمل تنزيهٌ وتعظيم لربّ الأكوان القادرِ على كل شيء، والمُتصرِّف في كُلِّ شيءٍ متناغمًا مع مقام التكريم في عبوديّة المحبّة؛ حيث تتقاربُ المَسافاتُ بين الأمكنة، ويُطوى الزّمن، ولا يعودُ لعتمة الليل معنىً في غِياب الإبصار والمشاهدة، وحيثُ لا يَحولُ اللاهواء دونَ سماع الأصواتِ وإدراكها؛ فكُلُّ ذلك ستخرقهُ القدرة الإلهية لصاحب الإسراء والمعراج الشريفين؛ فسَيُبصر وسيسمع؛ لأنَّه في مَعيّة الله السميع البصير الذي لا يُعجِزهُ شيء.
ويستكمل حديثه قائلًا: في المعراج الشريف به - صلى الله عليه وسلم- روحًا وجسدًا من المسجد الأقصى المبارك إلى بوّابة السماوات العُلا ترتسم في الأذهان، وعلى صفحات القلوب صورة العلو، والتميُّز، والتفرد حسّا ومعنىً؛ حيث الآيات الكبرى، وحيث النفحات القُدسيّة الشذيّة واللقاء الخالد عند سِدْرة المنتهى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) [النجم:16].
إنَّ في رحلة الإسراء والمعراج بالنبيِّ الأعظم -صلى الله عليه وسلم- جلاءٌ للبصائر قبل الأبصار، وزادٌ للأرواح قبلَ الأبدان، وسكينة سرمديّة للقلوب؛ فمنها ينبعثُ نور الإيمان، وصدق اليقين بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة الإيمانية الراسخة بين الأنبياء، وفيها تتجلى صور التماسك، والترابط، والاجتماع، ووحدة الصفِّ، وعنوانُ ذلك كُلّه إمامتهُ، وقيادته، وريادته صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكون - وهو مُلهمُ العالم والبشرية، والأسوةُ الحسنة لها في شتى معاني الحياة؟ فطوبى وهنيئا لمن سرى بقلبه نحو مدارج الصفاء والكمال، واستقامت جوارحه على المنهج بحُسن الامتثال، وفقا إلى ما نبّه إليه بواعنة.
يقول أستاذ الحديث النبوي الشريف في جامعة آل البيت الأستاذ الدكتور محمد مصلح الزعبي، إن رحلة الإسراء والمعراج من المعجزات الحسية الكبرى التي أيّد الله بها نبيّه، ولم تكن هذه الليلة ليلة عادية، بل هي ليلة من الليالي المشرقة بالأنوار الإلهية، وما حدث فيها لم يكن أمراً عارضا، بل أستطيع الجزم بأنها كانت حادثة مبرمجة ضمن برنامج خاص أحكمه الله تعالى يهدف إلى أمرين، وهما التأكيد للناس بأن محمداً-صلى الله عليه وسلم-رسول الله حقاً وصدقاً، وأن الدين الذي جاء به هو الدين الحق، والتأكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم-بأن الله ناصره، وإن تخلى عنه أهل الأرض، فإن الله قد سخّر له أهل السماء، فهم يرحبون به ومستعدون لنصرته.
ويضيف الزعبي، وهو عضو رابطة علماء الأردن وعضو مؤسس في اتحاد الأكاديميين والعلماء العرب، أنه حدثت في هذه الليلة حوادث مهمة أولها: صلاة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إماماً بالأنبياء جميعاَ، وهذا يعدّ تحولاً سياسياً جذرياً، نزعت به القيادة من بني إسرائيل، وسُلّمت إلى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التحول باركه ممثلو الأمم السابقة وهم الأنبياء المعصومون.
ويشير إلى أن صلاته إماماً بالأنبياء جميعاً على اختلاف قومياتهم وألوانهم تعني: أنّ الدولة الإسلامية تُظلّ بمبادئها جميع المؤمنين، وتدل على أن بيت المقدس، وهذه الأرض المباركة من حوله، هي جزء من أراضي الدولة الإسلامية المرتقبة؛ لأن صاحب البيت هو الأحق بالإمامة دون غيره.
وفي هذا إشارة-أيضاً- ودلالة لعموم رسالة النبيِّ محمد وعالميّتها، فدعوته عامة لكلّ بلد، وفيه كذلك دلالة على أنّ رسالة سيّدنا محمد ناسخة لجميع الرسالات السماوية قبله، والإمامة بحدّ ذاتها تدلّ على الاقتداء، فقد اقتدى به الأنبياء حينما صلّوا خلفه، وكانت دعوتهم جميعاً إلى الإيمان بالله والابتعاد عن الشرك، بحسب الزعبي.
ويوضح، أن الإسراء إلى بيت المقدس والعروج من هناك إلى السموات العُلا فيه ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ودعوة إلى شدّ الرحال إليهما، والعمل على تطهير مثل هذه الأماكن المقدسة من كل شرك.
ويلفت إلى أن من الحوادث المهمة التي حدثت في رحلة الإسراء والمعراج: أن الله فرض الصلاة على النبي وأمته، والصلاة أهم أركان الإسلام فهي عمود الدين، ولذلك انفردت الصلاة عن باقي الأركان بأنها الركن الوحيد الذي فرضه الله من فوق سبع سماوات، في حين أنّ غيرها من الفروض والعبادات كان الوحي يتنزّل بها إلى رسول الله، مبينا أن ذلك دليل على أهميّة الصلاة وعظم مكانتها.
وقد يتساءل بعض الناس عن وجود أعمال مخصوصة يقوم بها المسلم في يوم ذكرى الإسراء والمعراج، والواقع أنه لم يرد في السنة الصحيحة ما يشير إلى وجود عبادة مخصوصة في هذا اليوم، لكن المسلم مأمور بالطاعات في جميع الأوقات دون تخصيص إلا في الأيام التي ورد تخصيصها بالسنة الصحيحة؛ كالعشر الأواخر من رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء ونحو ذلك، وفقًا للزعبي.
ويوضح أنه لو قام المسلم هذه الليلة أو صامها، وذكر الله وتصدق بفضل ماله بنية التقرب إلى الله، - دون أن يربط ذلك بخصوصية هذه الليلة- فله ذلك، فإن الانتقال من طاعة إلى طاعة فهو معراج يقرب العبد من ربه -عز وجل-، وهذا هو المعنى الحقيقي للمعراج، والله جل جلاله لا يضيع مثقال ذرة، أما أن يربط هذه العبادة بأنها خاصة بليلة الإسراء والمعراج، فهذا لا دليل عليه، ومعلوم أن العبادات أصلها التحريم ما لم يرد نص في الإباحة.
وعن الدروس والعبر من رحلة الإسراء والمعراج، يلفت إلى أنها عديدة، ذلك أن معجزة الإسراء والمعراج جاءت تكريمًا لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم-وفيها إثبات لنبوته، وتعدّ نقطة تحول في طريق الدعوة إلى الله، فضلا عن إثبات عالمية رسالة الإسلام ونسخها للرسالات السابقة، وبيان عظم مكانة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- التي لم يحظَ بمثلها أحد من قبله ولا من بعده، وبيان فضل المسجد الأقصى وربط قدسيته بقدسية بيت الله الحرام، وبيان الدين واحد وإن تعددت الشرائع، فكل الأنبياء يدعون إلى توحيد الله، وتمحيص المؤمنين واختبار صبرهم وثقتهم بنبيهم.
ويبين، أن من الدروس أن الصبر مفتاح الفرج، إذ إن رحلة الإسراء والمعراج كانت بمثابة الدعم النفسي للنبي - صلى الله عليه وسلم- بعد فقده لسنده الداخلي: زوجته، والسند الخارجي: عمه، وتكريمًا له على صبره وتحمله.بترا