اطلعت على تقرير حديث باللغة الانجليزية يتحدث عن الديمقراطية المعيبة في أوروبا والعالم، وأن النخب السياسية أصبحت تراعي في الغالب إما مصالح الشركات الكبرى وأصحاب النفوذ، أو تراعي الشعبويات، وأن نسبة تصويت الجمهور في الديمقراطيات الأوروبية تناقصت بشكل تدريجي منذ نهاية الثمانينات وبشكل حاد في السنوات الأخيرة، بحيث لم تعد مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية والعمالية تثق بالأحزاب، ولا تشارك بكثافة في الانتخابات، لأن قيادات الأحزاب لم تعد تراعي وتمثل مصالحهم وقضاياهم.
فالعالم يتغير ويتطور بشكل سريع علميا وتكنولوجيا، والذكاء الإصطناعي وانترنت الأشياء والتدفق الهائل للمعلومات، بدأت تسيطر على عالمنا شيئا فشيئا فلا يعقل أن تبقى الأحزاب تعمل بذات الأساليب القديمة، فأدواتها وخياراتها أصبحت جزءا من الماضي.
والمجتمع صار يُنظم بطريقة جديدة، لا تنطلي عليه تحركات النخب وخطاباته، ما حدث في فرنسا مع السترات الصفراء وفي الجزائر والسودان، فالأحزاب التقليدية مآلها الاندثار.. مرحلة وانتهت في التاريخ.. جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية وبلغت أوجها في القن الـ19 ثم في القرن الـ20 ثم صارت بعد ثورة الاتصالات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا وفي حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها.
والأحزاب السياسية عموماً تبدو في المرحلة الحالية من التطور السياسي مأزومة، ومن أعراض أزمتها التآكل السريع لأحزاب حاكمة كما حدث في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ومنها أن تأتي القيادات من خارج البنية الحزبية أصلاً ثم تنشئ لها أحزاباً كما فعل الرئيس الروسي بوتين ذي الخلفية الاستخباراتية، والرئيس الفرنسي ماكرون الذي تمرد على الأحزاب التقليدية وكوّن لنفسه حزباً قد يتآكل بعد رئاسته.. بل إن الرئيس الأميركي ترامب وإن ترشح من خلال الحزب الجمهوري فإنه لم يكن له أي نشاط في هذا الحزب.
ومن الأعراض كذلك تراجع الأحزاب السياسية الكبرى كما في حالة حزبي «المحافظين» و«العمال» البريطانيين اللذين تواضعت مكاسبهما في الانتخابات المحلية الأخيرة، ومنها كذلك محاولات التغيير من خارج البنية الحزبية، كما تشير حالة حركة السترات الصفراء في فرنسا.
وتحاول بعض الأحزاب الناشئة في الأردن التقدم بشيء جديد وتحاول التطوير لكن ببطء شديد، ربما بانتظار وضوح الرؤية أو بسبب تعطيل خارجي أو داخلي، فيجب توفير بيئة جاذبة ومناسبة للعمل الحزبي وإشتباكه مع المجتمع وتأثيره وأثره.
فمعظم الأحزاب لدينا غير برامجية بالمعنى الحقيقي، فبرامجها فضفاضة وعامة وذات خطوط عريضة، ولا تستعين بمراكز أبحاث وبيوت خبرة "Think Tank" لتدرس الجمهور وخصائصه وخاصة جيل الشباب، وتستمد منها برامجها المستقبلية، تلك الأحزاب تعتمد فقط على أشخاص بماضيهم النضالي – القريب والبعيد – ينظرون ويخاطبون الجمهور بذات النمط الذي لا ينسجم مع عصر الحداثة والتكنولوجيا الجاذب للشباب، ، وحتى بعض الأحزاب التي لديها برامج مقبولة نوعا ما وتسعى إلى تطوير منهجيتها ولديها استراتيجية، فهي ليست جاهزة لتسلم "حكومة" فاعلة بعد، أي أن لديها أشخاصا وقادة شباب، ونخب ذوي حضور فاعل، مؤهلين سياسيا وعلميا وعمليا لتسلم حقائب وزارية ضمن برنامج واضح لكل وزارة متغير بتبدل الظروف والمعطيات.
وشخوص الأحزاب القائمة أو الأحزاب الجديدة، ما هي إلا أعداد بسيطة ونخبوية، لا تمثل المجتمع تمثيلا حقيقيا (مع بعض الإستثناءات المحدودة) وستواجه معضلة في الإستقطاب وخاصة فئة الشباب الذين يشكلون ثلثي المجتمع الأردني، وخاصة في المحافظات والأطراف، والشباب هم القواعد الحقيقية للأحزاب القائمة أو الجديدة، وآخر هم هؤلاء هو المشاركة السياسية تصويتا وانتخابا أو انضماما للأحزاب، وهمهم الرئيس اقتصادي صرف وأرقام البطالة أصبحت مقلقة وتشكل خطرا اجتماعيا وسياسيا وأمنيا، ولا أعتقد أن النخب الحالية مع احترامي الشديد لها تستطيع التعامل مع واقع الشباب ومشكلاته وقضاياه وتحديات المستقبل.
والحزب (القائم أو الجديد) الذي يستطيع أن يحل مشكلة ومعضلة استقطاب الشباب، هو الذي سيقود التيارات المتشابهة فكرا وهوية،
فأحزابنا الجديدة في حالة ولادة قيصرية عسيرة وستبقى في الخداج لفترة طويلة، ونمو بطيء، فإما رضاعة طبيعية أو صناعية، فلنؤجل الحكم عليها..