سواء من إفرازات الواقع اعتماداً على المصالح والاصطفافات، أو نتيجة التضارب بين طرفين أو الأطراف، تمكن الأميركيون بعد نجاحهم في ثنايا الحرب الباردة وتفاصيلها ونتائجها 1990 أن يفرضوا أنفسهم ومن معهم، أكانوا حلفاء أو أدوات، بسيطرتهم كقطب واحد على المشهد السياسي العالمي، مستأثرين بما يتوفر لديهم من مكاسب وأسواق وامتيازات وفرض عملة الدولار كأقوى عملة عالمية متداولة.
بروز الصين كقوة اقتصادية ثانية منافسة بعد الولايات المتحدة، واستعادة روسيا لجزء من قوتها، وتصادمهما منفردين أو مجتمعين، للسياسات الأميركية، ورفضهما للتفرد الأميركي وهيمنتها، عزز من بروز أو استعادة تدريجية لأن يشكلا القطب الثاني في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا، ومن معهما.
الاجتياح الروسي لأوكرانيا، عزز من حالتي الفرز والاصطفاف، وكادت تكون بداية للمشهد السياسي المقبل، والعودة لحضور وسياسة القطبين، وإنهاء تدريجي لهيمنة القطب الأميركي الواحد.
تصريحات الرئيس الفرنسي في أعقاب زيارته لبكين، دالة على بروز قطب أوروبي يقع بين القطبين، وتكاد تكون مقدمات حسية تعبر عن مواقف مستقلة، ورغبة في الابتعاد عن الهيمنة الأميركية، بدون الانضواء تحت الهيمنة الصينية الروسية، أي عدم استبدال القطب الأميركي البريطاني، بالقطب الروسي الصيني، بل هي سياسة مستقلة تُبشر بولادة قطب ثالث تقوده فرنسا مع ألمانيا.
ألمانيا تملك القدرات المؤهلة للتحرر من الهيمنة الأميركية حصيلة الحرب العالمية الثانية التي هزمت ألمانيا، أو حصيلة الحرب الباردة التي هزمت روسيا ومعسكرها الاشتراكي عام 1990.
تملك ألمانيا قُدرة اقتصادية إنتاجية تضعها بموقع الدولة الثالثة اقتصادياً في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، كما تحتل الموقع السياسي الأول في أوروبا، ولكنها لا تملك القدرة العسكرية التي توازي تفوقها الاقتصادي ومكانتها السياسية، ولهذا رصدت العام الماضي مبلغ مائة مليار يورو كمقدمة مالية لبناء جيشها الوطني، وهي بصدد رصدها مائة مليار أخرى هذا العام والذي يليه حتى تكون مهيأة مع يوم تحررها، بل استقلالها واستعادة سيادتها في 1/1/2025، بانتهاء فترة العقوبات المفروضة عليها منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وبهذا تكون ألمانيا مالكة لقوتها: الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعندها تتخلص من تسلط واشنطن، وتسير باتجاه قراراتها المستقلة، وإزالة القواعد الأميركية من على أراضيها.
ألمانيا وفرنسا سيشكلان القطب الثالث، ولا شك أن بلداناً وازنة ستسير معهما وباتجاههما، وتحتمي بهما، في مواجهة تسلط قطب أو تفرد قطب، مما يخلق حصيلة متوازنة في العالم، أكثر مما هي سائدة اليوم، فالذي فعلته واشنطن في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن وغيرها من البلدان تم بقرار أميركي، وإن كان ذلك برغبة ودفع وتحريض من قبل المستعمرة الإسرائيلية.
تصريحات الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون «أن على أوروبا أن تنتهج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة والصين، وأن تكف عن التبعية لواشنطن» لا تحتاج لشطارة الاستخلاص، أو الاجتهاد في التخمين، فهو يتحدث عن «استقلال القارة الاستراتيجي» لأوروبا عن الولايات المتحدة، وهو يقول ذلك مقروناً بوضع الخطوات الأولى التدريجية حينما يتناول خطوات تقليل اعتماد أوروبا على السلاح الأميركي، أو على مصادر الطاقة، أو على الدولار الأميركي، أو غيرها من خطوات الفعل السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، والابتعاد عن قضايا تصادم القطبين، وعدم الإنحياز لأحدهما ضد الآخر، كما هو الحال في أوكرانيا أو تايوان او غيرهما من العناوين الحادة المتفجرة.
العرب وفلسطين سيكونون أول المستفيدين وأول الداعمين، ولولا قراءة العربية السعودية المبكرة لهذه التوجهات لما أقدمت على التجاوب مع المبادرة الصينية لاستعادة العلاقات السعودية الإيرانية، والعمل على استمرار وقف إطلاق النار وتجديد الهدنة في اليمن.