شهدت الساحة الإعلامية و(بخاصة الرقمية) خلال الأيام القليلة الماضية جدلاً يبدو أنه مفتعل، بهدف الإثارة والبلبلة، على أثر اللقاء الذي نظمته مجموعة من منصات الإعلام الرقمي مع دولة السيد فيصل الفايز رئيس مجلس الأعيان، بحضور عدد من الإعلاميين والسياسيين، حيث جرى تحريف واضح للطروحات والمواقف، وإجتزاء للحديث، ونزعه عن سياقاته، وتأويل معانيه ومقاصده ولكون كاتب هذه السطور قد إطلع على مجريات وتفاصيل ما طرح في اللقاء ولإظهار الحقيقة، وكشف الزيف والتأويل، لا بد من طرح الملاحظات الآتية: أولاً: طالب الفايز «بضرورة وضع إستراتيجية إعلامية للدولة، تحمل رسالة المملكة وتدافع عن مصالحها ومواقف الأردن السياسية والقومية، ودور الأردن بقيادة جلالة الملك عبدلله الثاني، في الدفاع عن القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية» وطالب «بضرورة إيجاد إستراتيجية إعلامية للدولة الأردنية، وعقل إعلامي لها»، وأضاف: «الأردن يواجه تحديات عصيبة، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي والدولي، مما يستوجب العمل من خلال مؤسسات الدولة، لوضع استراتيجية جديدة لإعلام دولة وليس إعلام حكومات»، وأن «هناك تراجعاً في دور المؤسسات الإعلامية، لتحل مكانها وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتغذى على الأخبار المفبركة والإشاعات واغتيال الشخصية، وأصبح كل من له منبر يتحدث بشؤون الدولة الأردنية إلخ.. وهنا نقول: أليس من حق مسؤول بحجم رئيس سلطة تشريعية أن يطالب بما نتحدث حوله ليل نهار، وفي مختلف اللقاءات والمنابر، حيث يشتكي الناس من ظواهر الفوضى والانفلات، والتسيب في مجال الفضاء الإعلامي الإفتراضي، وكذلك توظيف الإعلام و(بخاصة الرسمي) لنقل رسالة الأردن والدفاع عن مصالح الدولة أمام أخطار وجودية هائلة؟!
ثانياً: العشيرة والإصلاح السياسي وحول موضوع الإصلاح السياسي، والتوجه نحو الوصول إلى تشكيل الحكومات البرلمانية، أشار الفايز إلى أنه «لا يمكن تجاوز الواقع الأردني الراهن في هذه المرحلة عند الحديث عن الإصلاح السياسي وهو أن العشيرة الأردنية هي أهم مكون في المجتمع، وما زالت أقوى من الأحزاب الحالية..»، وأضاف «لنكون واضحين، إذا أردنا أن نصل إلى طموح جلالة الملك في الدولة المدنية، فإنه يجب أن يكون دور العشيرة اجتماعيا فقط، من خلال الحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا الحميدة التي نعتز ونفتخر بها، ولا تتعدى ذلك إلى الأدوار السياسية والاقتصادية..» وأضاف «أن الإصلاح السياسي سيتحقق، لكن بتدرج، وعلينا الابتعاد عن المناطقية والجهوية، التي ما زالت مسيطرة على ثقافتنا، والدليل أن الانتخابات البلدية تشهد سيطرة واضحة للجهوية والمناطقية على خياراتنا الانتخابية.».
بالله عليكم، هل يختلف ما قاله فيصل الفايز عن ما تطرحه معظم الأحزاب والنخب السياسية والاجتماعية الأردنية، والتي لا تزال تلجأ إلى العشائر لحشد التأييد لمرشحيهم في الانتخابات النيابية والبلدية، والأهم أن الحديث حوله بهذا الوضوح والشفافية، يأتي من زعيم قبلي بارز ورجل دولة من الطراز الرفيع. أما «التدرج» في الإصلاح السياسي، الذي نادى به الفايز، فهو النموذج الأردني بإمتياز للإصلاح السياسي، حيث أثبتت هذه التجربة نجاعتها، مقارنة مع بدائل التغيير الجذري، والتي قفزت عن واقعها السياسي وموروثها الاجتماعي والثقافي، والأمثلة على ما نزعم عديدة ومعروفة للجميع. ثالثاً: واقع الأحزاب السياسية الحالي وفي موضوع الإصلاح السياسي والأحزاب، تساءل الفايز: «أتساءل معكم، هل هذه الأحزاب الجديدة، في ظل التركيبة الحزبية الراهنة، تستطيع أن تحمل تحديات المرحلة القادمة»؟ وأضاف: «أن ذلك مرهون بتغيير ثقافتنا الانتخابية التي ترتكز على الجهوية والمناطقية حتى في تشكيل الأحزاب».
كما أكد الفايز «على وجود الإرادة السياسية القوية للإصلاح، وأن جلالة الملك عبدالله الثاني مقتنع ومصمم على أن يكون للأحزاب دور في المرحلة القادمة من تاريخ الأردن، متمنياً نجاح التجربة الحزبية المقبلة، خاصة مع وجود (41) مقعداً خصصت للأحزاب في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فطموح جلالة الملك أن نصل إلى برلمان حزبي خلال (12) عاماً مقبلة، وبالتالي، تشكيل الحكومات الحزبية من الأغلبية البرلمانية، لهذا، فإن الإصلاح السياسي المتدرج يجري وفق ما هو مخطط له وما يريده جلالة الملك » (انتهى الاقتباس). فهل يمكن لاحد منصف أن يفهم من كلام الفايز غير تشخيصه للواقع ورغبته الصادقة في تطوير وتعزيز الحياة السياسية في بلادنا، وفق توجيهات وقناعات قائد الوطن؟! رابعاً: القضية الفلسطينية ورداً على سؤال حول الأوضاع الإقليمية الراهنة والقضية الفلسطينية، أوضح الفايز: «أن الوضع الإقليمي ملتهب، والقضية الفلسطينية هي القضية المركزية للدولة الأردنية، والأردن والأردنيون هم الأقرب إلى فلسطين والشعب الفلسطيني». وأضاف: «لقد كنا في الأردن على الدوام قيادة وشعباً، مع الشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة القابلة للحياة وذات السيادة الكاملة على التراب الوطني الفلسطيني، وعاصمتها القدس الشريف».. وأشار إلى «أنه عندما أنظر إلى المشهد السياسي الأردني للأسف، هناك مزايدات كثيرة على الدولة الأردنية ومواقفها القومية، وهل تستطيع الدولة الأردنية وحدها تحمل كامل عبء القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الوضع العربي الراهن».. (انتهى الاقتباس).
وكأنه هنا يوجه سؤاله إلى أولئك الذين يطالبون الدولة الأردنية بركوب المستحيل، بل والعمل بما يشبه الانتحار، معتبراً أن مواجهة الكيان الصهيوني وتحرير الأرض هي قضية كل العرب والمسلمين، مطالباً بتحكيم العقل، لا العاطفة في القضايا المصيرية، خاصة في ظل الضعف والتشتت العربي، والتحالف الاستراتيجي بين العدو الصهيوني والغرب. ومؤكداً في الوقت نفسه: «على التمسك بالثوابت الوطنية، ودعم الأردن ووقوفه إلى جانب شعبنا الفلسطيني، وباستخدام كافة الإمكانيات المتاحة، السياسية والاعلامية، والدبلوماسية، واستعداد الأردن الدائم للتصدي لأية محاولات تمس أمننا واستقرارنا».. أي أنه يفرق بين استعدادنا للذود عن الوطن وافتدائه بالمهج والأرواح، وبين تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة الذي يحتاج إلى أن يتحمل العرب والمسلمون مسؤولياتهم جميعاً، فأين الخطأ فيما ذهب إليه؟! ولمصلحة من يتم تأويل الحديث وانتزاع الكلام من سياقه وإعادة تركيبه بما يخدم أعداء الأردن والمتربصين بأمنه واستقراره؟! خامساً: الجبهة الداخلية وحول الجبهة الداخلية قال الفايز: «علينا أن نواجه تحدياتنا الاقتصادية والاجتماعية بتعزيز جبهتنا الداخلية، التي تتعرض لمحاولات العبث بها»، وأضاف أن «جلالة الملك عبدلله الثاني هو صمام الأمان للأردن، والملك قوي داخلياً وقوي على مستوى الأقليم والمستوى الدولي، وجلالته محترم ومقدر أينما يذهب، وكلما كان الملك قويا، الأردن سيظل قويا، ويجب أن يظل الملك قوياً، وأن يلتف شعبه حوله كعهده دائما، بغض النظر عن مشاكلنا وتحدياتنا الاقتصادية والاجتماعية».
إن ما طرحه الفايز في هذا المجال ينسجم تماماً مع ما نؤمن به جميعاً، وهو ما يكرره الفايز نفسه دائماً، ولسنين طويلة، في تصريحاته ولقاءاته. كما ربط الفايز، خلال اللقاء، بين الجبهة الداخلية والتحديات: «إننا نواجه اليوم تحديات ومشاكل مختلفة تستلزم تقوية جبهتنا الداخلية لتبقى على الدوام راسخة متينة، وعلى الحكومات مسؤوليات كبيرة لايجاد الحلول لمختلف المشاكل والتحديات الاقتصادية التي تواجه الأردنيين، للتخفيف عن كاهل المواطن، الذي يحمل أعباء كثيرة اقتصادياً واجتماعياً». سادساً: الملف الاقتصادي وحول هذا الموضوع أوضح الفايز » أن مشكلة البطالة لا يمكن حلّها إلا عن طريق القطاع الخاص ودور الحكومة في جذب الاستثمار»، منوهاً إلى » أن الدولة الأردنية لا تستطيع استيعاب خريجي الجامعات والمعاهد، وإن إيجاد الحلول لمشكلة البطالة، وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين، يحتاج إلى البحث عن مجالات أخرى، كالاستثمار للتوظيف في المشاريع الزراعية والتصنيع الغذائي، واستغلال مئات الاف الدونمات، باستخدام أحدث الطرق والتقنيات التي تأخذ بالاعتبار شح المياه في الأردن». «وأكد على أهمية تعزيز استثماراتنا في القطاع السياحي، الذي بدأ يشهد انتعاشاً كبيراً، والتركيز على الصادرات، حيث ارتفعت صادراتنا إلى الولايات المتحدة الاميركية إلى (2,5) مليار دولار». وحول إمكانية نجاح التجربة الحزبية بالبرلمان القادم وقدرتها على مواجهة تحدياتنا الاقتصادية، أشار الفايز إلى أنه » لا يستطيع الآن التنبؤ بمدى النجاح، نظراً لحداثة التجربة الحزبية والتي تحتاج إلى وقت كافِ للوصول إلى الحكومات البرلمانية والحزبية الحقيقية». سابعاً: تطرق الفايز إلى الأوضاع الأقليمية والدولية الراهنة، وأشار إلى صعوبة وضع إستراتيجية طويلة المدى للدولة الأردنية، خاصة في ظل ما يتعرض له الأردن والمنطقة من أزمات خلال العقدين الماضيين، ابتداءً من احتلال العراق، والأزمة المالية العالمية (2008)، وأحداث الربيع العربي، وبعدها جائحة كورونا، وحالياً الحرب الروسية الاوكروانية، والصراع الأمريكي الصيني». واختتم الفايز حديثه بالتركيز على » أهمية سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء، لأن سيادة القانون هي أساس كل اصلاح سياسي، رافضاً الاحتماء بالعشائرية والجهوية والمناطقية عند إنفاذ القانون..
وبعد...
لقد كان الفايز، كعادته، واضحاً وصريحاً في كل ما طرحه من أفكار ورؤى، حيث شخص الواقع، كما هو، دونما مجاملات أو تجميل، وكان صادقاً مع نفسه، ومنسجماً مع قناعاته، التي لم تكن يوما إلا مع الوطن والعرش، وثابتاً عليها في كافة مواقع المسؤولية التي تبوأها. إن ما يقوم به البعض من افتعال للمعارك، والاصطياد في المياه العكرة، وتشكيك وتطاول، واساءات لرموز وقيادات وطنية، يستهدف الدولة الأردنية والنيل من مكانتها وهيبتها ومنعتها. كما أن زعزعة الثقة برموز الدولة ومسؤوليها يؤدي، لا محالة، إلى إضعاف ثقة أبناء شعبنا بانفسهم، وهذا يشكل مقدمة للهزيمة الذاتية، وهنا مكمن الخطر القاتل. إن مجتمعنا وبلدنا بحاجة ماسة إلى تكاتف الجميع، وحشد الطاقات للمساهمة في إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهنا، فكلنا في قارب واحد، ولا بد أن نكون على قلب رجل واحد للوصول إلى بر الأمان. إنها رسالة إلى صالونات النميمة السياسية والتي، على ما يبدو، ليست بعيدة أو بريئة مما يجري من مناكفات وإثارات للبلبلة وعدم اليقين، وفق مبدأ: («يا لعيب... يا خرّيب»!). لقد سئم شعبنا الطيب الذكي من هذه الصراعات والدسائس، والتي أصبحت مكشوفة ولا تنطلي على أحد. فمثل هذه الممارسات المغرضة والمكشوفة تصب في المحصلحة في طاحونة أعداء الوطن والمتربصين به. إن ما ذهبنا إليه ليس دفاعاً عن الفايز، بل انتصار للحقيقة والوطن، الذي نحب ونفتدي بالمهج والارواح! قال تعالى «أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ».. صدق الله العظيم سورة الرعد آية (17). (الراي)