عندما كنت في السنة الرابعة في الجامعة انتقلت إلى بيت آخر افضل وضعا وراحة من البيت الرديء الذي كنت اسكنه. جاورت أحد الجيران صاحب محل تجارة صغير ، كنت أشاهد الرجل كل يوم و هو عائد إلى بيته يمر على بيت صغير و معه الأكياس المملوءة بالحاجيات و يضعها على باب عجوز و يغادر ومن ثم تأتي زوجته إلى ذلك البيت ومعها الطعام .
كنت أظن في البداية أنها والدته لاهتمام الرجل و زوجته وبناته بها ، علمت أن العجوز شبه عمياء و تعاني من المرض، فقد كان الرجل يدق الباب علينا في ساعات متأخرة من الليل، لكي نساعده في حمل العجوز في سيارته ، و كان في كل مرة يعتذر لنا عن ازعاجنا، و عندما أنهي مهمتي معه أعود إلى البيت لأرقد في فراشي، في حين يذهب هو و زوجته إلى المستشفى لكي يعالج العجوز و يطمأن على صحتها ، وقتها كنت أقول في نفسي :" هنيئا لهذه العجوز بهذا الإبن البار فوق العادة ، وتارة أخرى أقول في نفسي:" طوبى لهذا الإبن المرضى عنه من والديه " .
كنت أشاهد زوجته يوميا في الصباح الباكر تذهب إلى بيت العجوز المجاور لنا و تقوم بتنظيفه وكنت وقتها اقول:" الله يجزيها الخير هالمرأة الفاضلة تستأجر في حماتها خيرا و تتاجر مع رب العالمين ،الله يكثر من أمثالها ، كنت أظن أنها عمتها أو حتى والدتها مازالت الصورة لدينا ضبابية و لكنني خمنت أنها والدة الرجل كونه يستحال أن يهتم أحد بحماته هكذا .
لا أخفي عليكم أنني كنت لا ارتاح لهذا الرجل، لتصرفاته رغم أنه كريم كما ينبغي ، فهو يمضي ساعات طويلة حتى الفجر و هو يجلس على عتبة البيت يدخن الارجيلة يستمع للأغاني الخليجية ، و كان يثير دهشتي واستغرابي، فهو يأتي لنا بالطعام الذي تطبخه زوجته في البيت قبل الفطرة بدقائق، وقتها لم أكن أهتم كثيرا بما يصنع لنا و ذلك للفكرة السيئة التي رسخت في ذهني و كنت أقول في نفسي:" ما اعظم هذا الإبن البار بوالدته وما يقدم من خير لنا في كل أيام رمضان ليته يلتزم بأمور الدين ، فهو يقدم لنا وكأنه من أهل الخير والصلاح ...!!.
في أحد المرات بالليل دق علينا البيت بقوة حتى أنه افزعني، فلما فتحت له، قال :" بسرعة تعال أحمل معي الحجة تعبانه كثير " ، وخرجت للتو، فقد شاهدته يبكي ومتوترا وقتها عرفت أن والدته في وضعٍ صحيٍ سيء .
و عندما حملنا الحجة في السيارة طلب مني الذهاب معه إلى المستشفى، فذهبت معه مع أنني كنت أخشى صحبته؛ كونه لا يصلي ولا يصوم ، و لكنه شديد البر بوالدته وأكرام الضيوف الذين كنت اشاهدهم يأتون لبيته يوميا في رمضان و كان يدعوننا ولكننا لا نذهب خوفا من الإحراج ، فلما وصلنا المستشفى ذهب بسرعة إلى غرفة الطوارىء لكي يأتي بالسرير الطبي الذي وضعنا عليه والدته وادخلناها بسرعة إلى الطوارىء ، فقام الطبيب المناوب بفحصها على عجل و نحن ننتظر بالخارج ، فخرج علينا الطبيب وهو يقول:" بسرعة بدنا ننقلها لغرفة العمليات بحاجة لعملية مستعجلة" فلما ادخلناها خرج لنا طبيب العمليات و وجه كلامه للرجل:" أنت إبنها" فصمت ، وكرر الطبيب الجملة وقتها قال الرجل :" هي بمنزلة والدتي و لكنها ليست والدتي ، وقتها شعرت بالغرابة والدهشة كنت اظنها والدته لحجم العناية التي كان يقوم بها تجاه العجوز ، فقال الطبيب:" نريد أحدا من اهلها أن يوقع على ورقة العملية " فأجاب:" أنا بوقع يا دكتور هذه عجوز ليس لها احد من الأبناء و لا الأقارب مقطوعة من شجرة " ، فأجاب الطبيب لا يجوز هذا مخالف للتعليمات، فشاهدت الرجل يبكي و يتوسل للطبيب لكي يوقع فلما شاهده الطبيب قال له :" خلص وقع هذه مسؤولية ...الله يستر ...!
و عملت العملية وبقيت معه لصلاة الفجر و عندما هممت بالذهاب إلى بيتي اتصل بسيارة تكسي أجرة لكي تنقلني وتعذر مني أنه سوف يبقى عند العجوز و غادرت كون لديّ دوام تطبيق عملي في المدارس في الصباح ، فقد كنت في الفصل الأخير (خريج) .
بعد أيام صدفته في الطريق وسألته عن العجوز، فقال أنها في صحة جيدة و هي عندهم بالبيت لأيام لكي تعتني بها زوجته وبناته .
كان الرجل يستدعيني لكي اساعده في جمع الفواتير و جمع و حسبة الأموال، فقد شعرت أنه مرزوق رغم صغر محله و كان في كل مرة يقول : "روح على المحل وخذ الأغراض التي تحتاجوها ولا تدفع احكي للشاب في المحل ارسلني لك أبو فلان انتم طلاب علم" و بعض الأحيان يعطيني بعض النقود فأشعر بالخجل وقتها اشكره مع حاجتي لها في تلك الأيام الصعبة، حيث كنت اتحسس من ذلك .
فلما تخرجت من الجامعة ، رغبت بزيارة الجامعة بعد(٣ ) سنوات واحببت أن أزور الرجل في محله لكي أسلم عليه واسأل عن العجوز، فلما دخلت على محله وجدته قد كبر و فتح فروع بجانبه ، فسألت عن الرجل فوجدته بالداخل في مكتبه و لديه عمال كثر و لما اقتربت منه سلمت عليه وسألني عن حالي و قال:" الحمد لله فتحت محلات جديدة و وضعي ممتاز هلا زاد رأس المال عندي إذا بعدك ما تعيينت تعال أمسك الحسابات وبعطيك راتب كويس" ، فقلتة له الحمد لله لقد تعيينت في التربية ، وقتها سألت عن العجوز و قال قصدك والدتي لقد توفاها الله العام الماضي و شعرت بتأثره، فقلت له:" أجرك على رب العالمين ما كنت اتقصر معها" ، فشعرت أنه غضب و قال بالعكس:" الحجة ما غلبتنا من طعامنا البائت كنا نطعمها ، قصرنا معها " وكأنه اخفى ما كان يقدمه لها أمامي وأمام العمال الذين كانوا يستمعون لحديثنا، فصمتت لبعض الوقت وسلمت عليه وودعته بعدما طلب مني أن اتغدى مع الشباب في المحل كون الغذاء في الطريق واعتذرت بحجة أن الشباب ينتظروني في الحافلة كي نعود .
وقتها أدركت وأنا خارج من محله أن فعل الخير في السر هو زيادة في البركة وأن هذا الرجل لربما رزق بسبب تلك العجوز التي كان يحرص على تقديم الخدمة لها وكأنها والدته ، وادركت وأنا في الطريق عائدا إلى الطفيلة قول الشاعر :