(أقامت مديريَّة ثقافة مادبا ووزارة الثَّقافة، أمس الاثنين 18 أيلول 2023، حفلاً استذكاريَّاً مؤثِّراً وحاشداً في ذكرى رحيل الفنَّان الأردنيّ فارس عوض، وقد تكرَّمت مديريَّة ثقافة مادبا بدعوتي للمشاركة في هذا الحفل بكلمة، فكانت كلمتي هي التَّالية):
تميَّز غناء فارس عوض بلهجته الأردنيّة القديمة (شبه البدويَّة.. شبه الفلَّاحيَّة) الَّتي كانت دارجة في القرى والمحافظات، وبأنَّه كان مستمدَّاً من الموروث الشَّعبيّ، وكلماته حسنة السَّويّة، وألحان أغانيه مشغولة جيّداً، وفي الوقت نفسه، سهلة وقريبة مِنْ مزاج غالبيّة النَّاس وتتناغم مع أوتار وجدانهم، وكان صوتُه حنوناً وصافياً وعميقاً، وأداؤه متقناً وتعبيريّاً.
والحقيقة، أنَّ ثمَّة موسيقار كبير ومبدع، هو روحي شاهين، كان له دور مهمّ في قصَّة نجاح فارس عوض؛ فهو الَّذي اكتشفه وقدَّمه إلى النّاس بألحانٍ جميلة متقنة، وظلَّ يرعاه ويحدب على تجربته حتَّى يوم رحيله المأساويّ في خريف العام 1986 وهو في عزِّ شبابه ويتابع صعوده على سلّم الإبداع الفنِّيّ باطِّراد.
لقد أومض فارس وانطفأ بسرعة كالشِّهاب. لكنّ وميضه كان قويّاً بحيث أنَّ أثره بقي بعده وسيظلّ إلى أمدٍ طويل.
أغاني فارس عوض الآن جزءٌ من التُّراث الفنِّيّ الأردنيّ، يردِّدها كثيرٌ من الفنَّانين ويعيدون غناءها كتراث.
ولقد عرفته منذ الطّفولة المبكِّرة، حيث كان أهله يسكنون بجوار بيتنا القديم في مليح، وكنّا معاً في صفٍّ واحدٍ في مدرسة مليح، وكان في ملامح وجهه وشعره وجسمه النَّحيل شَبَهٌ كبير بعبد الحليم حافظ، وقد لاحت منذ ذاك ملامح شغفه بالغناء.
آنذاك، كانت الدِّراسة في مدرسة مليح تنتهي بالثَّالث الإعداديّ الَّذي كان له امتحان عامّ مثل امتحان التّوجيهيّ يُسمَّى المترك، وتُذاع أسماء النَّاجحين فيه عبر الإذاعة وتُنشَر في الصُّحف.
بعدها، انتقلنا إلى مدرسة مادبا الثَّانويّة، وتزاملنا فيها أيضاً إلى أن أنهينا الثَّانويّة العامّة.
نشأ فارس وترعرع في مناخ ثقافيّ حيويّ كانت تمور به مليح، على صغرها آنذاك؛ ولذلك، كان يتوق إلى إكمال دراسته الجامعيّة مثلما كان يحلم بوضع قدميه على طريق الفنّ الرَّفيع. لكنّ ظروفه لم تسعفه للالتحاق بالجامعة مباشرة بعد التَّوجيهيّ، إلى أن انطلق على طريق الفنّ ونجح وأصبح مشهوراً، وعندئذٍ، التحق بالجامعة الأردنيَّة وتابع تحصيله العلميّ.
وقد تزاملت معه مجدّداً في الجامعة، في أواسط الثَّمانينيَّات.. وكنتُ، آنذاك، خارجاً للتَّو من سجن المحطَّة، بعدما أمضيتُ فيه سنواتٍ عدَّة.
كان فارس وحيد والديه، وترك وراءه طفلين. وقد دُفِنَ في مليح، رغم أنَّه كان آنذاك يسكن في مادبا هو ووالداه.
وكان قبره في مقبرة مليح مميَّزاً ببناءٍ بسيطٍ يعلوه، وبقضبانٍ عاليةٍ تحيط به. وعندما كنتُ أُشارك في جنازةٍ أحدٍ من القرية، كنتُ أقف عنده وأنظر إليه بعض الوقت متذكِّراً بأسىً ذلك الشَّاب الرَّقيق المسالم المرهف الأحاسيس، الَّذي انقصف عمره فجأة وقبل تحقيق أحلامه على طريق الفنّ.
وفي السَّنوات الأخيرة، فوجئتُ باندثار معالم قبر فارس تماماً.. وعبثاً بحثتُ عنه مراراً، فلم أجد له أثراً.
مؤسف جدّاً أنَّ الثَّقافة المتزمَّتة الوافدة، الَّتي تسرَّبت إلى بلادنا في العقود الأخيرة، قد تفاقمت في النِّهاية وتسبَّبت بالكثير من المآسي.. ومنها طمس معالم قبر فارس عوض.
ومؤسف أيضاً أنَّ اسم فارس عوض لا يزيّن أيَّ شارعٍ مِنْ شوارع بلدة مليح أو مدينة مادبا.. وأنَّ شوارع مادبا (وشوارع بلدة ماعين) تفتقر إلى اسم غالب هلسا؛ ذلك النَّجم الَّذي سطع بقوَّة في سماء الثَّقافة والإبداع العربيين، ورفع معه اسم مادبا.
سيبقى اسم فارس عوض وفنّه حاضرين في وجدان النَّاس إلى أمدٍ طويل.