أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قرر عدم المشاركة في قمة دول بريكس ألتي إستضافتها جنوب أفريقيا في 24 أب/ أغسطس الماضي حتى لا يعرض الدولة المضيفة للخطر أو الحرج بالنظر إلى أنه ملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية لأتهامه بأرتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، يومها كان قد أشار المراقبون والإعلام الغربي إلى الأمر كدليل على العزلة ألتي يعيشها القيصر، بخاصة أن روسيا هي إحدى الدول المؤسسة لمجموعة بريكس ألتى أنشئت كبديل للمنظمات الإقليمية والمتعددة الأطراف ألتى يهيمن عليها الغرب، كما غاب عن قمة مجموعة الـ 20 ألتي أنعقدت في الهند خلال أيلول/سبتمبر الماضي، ومع ذلك فإن كثيراً من رحلات الرئيس الروسي خلال عام 2023 تشير إلى تحديه تلك العزلة ألتي طالما سعى المحور الغربي إلى فرضها عليه، وبالتأكيد لن تستقبل أية دولة غربية بوتين، فإن عديداً من القصور الرئاسية فتحت للرئيس الروسي خلال العامين الماضيين، إلا أن جاءت زياره الرئيس الروسي إلى أبوظبي والرياض للمرة الأولى منذ تشرين أول/أكتوبر 2019، لتعزيز العلاقات وبحث قضايا إقليمية بينها الحرب الإسرائيلية على غزة، وخفض إنتاج النفط في إطار عمل تحالف أوبك الذي أنضمت إليه روسيا، والتقى الرئيس الروسي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مشيراً إلى أن العلاقات مع الرياض وصلت إلى مستوى غير مسبوق، وقال الرئيس بوتين إن البلدين تربطهما علاقات جيدة ومستقرة، ولا شيء يمكنه منع تطور علاقاتنا الودية، وأنه من المهم جداً لنا جميعا الآن أن نتبادل المعلومات والتقييمات فيما يحدث بالمنطقة، وفي العاصمة الإماراتية أبوظبي حيث إجتمع بوتين مع رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وأن التعاون بين البلدين في إزدياد، وخلال العام الحالي سافر بوتين إلى العديد من الدول الحليفة غير الموقعة على نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، إذ إن حكومات تلك الدول ليست مضطرة إلى تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية، وفي تشرين أول/أكتوبر الماضي زار بوتين نظيره الصيني شي جينبينغ في الصين على هامش منتدى طرق الحرير الجديدة، وقبل ذلك بأيام زار قرغيزستان حليفة موسكو، في أول رحلة له إلى الخارج منذ صدور مذكرة التوقيف الدولية في حقه، وأوضح الرئيس الروسي في أوائل تشرين أول/أكتوبر أنه يتجنب الأجتماعات الدولية حتى لا " يسبب مشكلات " للمنظمين، ويقول مراقبون إن زيارة بوتين الأخيرة لدول الخليج تشير إلى أنه أصبح أكثر جرأة على السفر خارج بلاده على رغم محاولات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا عزله على المستوى الدولي، وقال رئيس مجلس السياسات الخارجية والدفاع فيودور لوكيانوف الذي يعمل مستشاراً للكرملين إن زيارة بوتين لأثنتين من القوى الخليجية الرئيسة علامة واضحة على أن روسيا تخرج من عزلتها الدولية، وهذا يعزز هدف روسيا المتمثل في تأكيد نفوذها بالشرق الأوسط، ويظهر أن الإمارات والسعودية، وكلتاهما حليف تقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، حريصتان على تحقيق التوازن في سياستهما الخارجية، وحتى وإن كان قد تم عزل بوتين عن الدول الغربية، لكن كان من الواضح منذ بدء الحرب أنه لم يتم عزله عن الصين وعدد من البلدان في الجنوب العالمي، ويشعر بوتين اليوم بأنه أكثر ثقة، فهذه الكثافة من الزيارات الخارجية لم يرها العالم منذ وقت طويل، ويبقى هدف بوتين من زيارته هذه إلى الرياض وأبوظبي واحد، وهو مناقشة الأمور المتعلقة بمنظمة أوبك والصراع في الشرق الأوسط وقيادة روسيا ل بريكس، وكانت بين عامي 2022 ـــــ 2023 قد زادت كثافة الإتصالات بين روسيا ودول الشرق الأوسط، حيث شهدت حركة التجارة بين روسيا والمنطقة إرتفاعاً كبيراً خلال العامين الماضيين، خصوصاً مع تركيا والإمارات وإيران، ولا يزال ينظر إلى موسكو بإعتبارها لاعباً دولياً مهماً، ولن يقطع أحد العلاقات معها من أجل أوكرانيا، علاوة على ذلك، تجد تصرفات روسيا في عدد من البلدان دعماً وتفهماً غير رسميين على مستوى النخب والرأي العام، وفي الوقت نفسه، فإن مبادرات الشرق الأوسط تجاه أوكرانيا على سبيل المثال دعوة السعودية للرئيس الأوكراني إلى حضور قمة جامعة الدول العربية الثانية والثلاثون في تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي، حيث تعتبرها موسكو جزأً من عملية توازن، فالرئيس الروسي يرى حالياً أن السياق الدولي أكثر ملاءمة له، فقد تعثر الهجوم الأوكراني المضاد الذي طال أنتظاره هذا الصيف أمام الدفاعات الروسية، أما الدعم غير المشروط الذي كان الغرب يقدمه لكييف حتى الآن، فقد بدأت تظهر عليه علامات الضعف بسبب الإنقسامات السياسية، وهو ما كان الكرملين يأمل فيه، وحتى في الداخل الروسي قد تعافت عائدات النفط، وتم تكميم الأصوات المعارضة للكرملين على نحو منهجي، ويستعد بوتين لإطلاق حملة إعادة إنتخابه في آذار/ مارس وهو أمر لم يعد موضع شك، وعلى الجانب الآخر، فإن خصمه الأوكراني زيلينسكي بات ظهوره على الساحة الدولية يواجه تحديات، على الرغم من ذلك الزخم غير المسبوق الذي حظي به طوال أكثر من عام ونصف العام منذ شباط / فيبروري 2022، فالدعم الدولي للرئيس الأوكراني لم يقتصر على النواحي المالية والعسكرية، لكنه حظي بترحيب خاص في جميع المحافل الدولية، فمن قاعات الأمم المتحدة ومنتدى الإقتصاد العالمي وقمم الـ 20 والسبع ، وصولاً إلى المهرجانات الفنية، مثل كان وفينيسيا، وحتى غولدن غلوب نافست خطابات زيلينسكي كبار نجوم الفن والغناء، واستقبلت بحفاوة الأبطال، ومع ذلك ففي الأشهر الأخيرة الماضية تراجع نجم الشاب الذي أصبح بطلاً قومياً ورمزاً عالمياً للمقاومة، وبدا منعزلاً عن الواقع الذي يراه داعموه من القادة الغربيين، وربما كانت تلك الصورة ألتي التقطت خلال قمة حلف شمال الأطلسي الناتو خلال شهر تموز/ يوليو الماضي في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا إنعكاساً لما يبدو عليه الحال بالنسبة إلى الرئيس الأوكراني، إذ بدأ زيلينسكي واقفاً بمفرده بوجه متجهم، وعلى النقيض كان زعماء العالم الآخرون من حوله يتحدثون بسعادة مع بعضهم بعضاً، حتى إنهم يمسكون بأيديهم في بعض الحالات، وفي حين كانت الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأكبر لأوكرانيا وقدمت لها أكثر من 76 مليار دولار من المساعدات، لكن ثمة توترات خلف الكواليس على صعيد القيادة العسكرية الأميركية المحبطة في شأن إخفاق الجيش الأوكراني في الهجوم المضاد خلال صيف العام الحالي وعدم إحراز تقدم في ساحة المعركة ضد روسيا، ولكن التوتر الأكبر يتعلق بالقيادة السياسية، حيث يرفع الجمهوريون قبيل إنتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في تشرين ثاني/نوفمبر 2024، شعار وقف الدعم لحرب لا تلوح لها نهاية في الأفق، وكان قد ألغى الرئيس زيلينسكي بصورة مفاجئة مشاركته في جلسة مع أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي كان يفترض أن يحض خلالها على مواصلة الدعم العسكري لبلاده في مواجهة الهجوم العسكري الروسي، بحسب زعيم الديمقراطيين في المجلس، وكان قد أستبعد مجلس النواب الأميركي أوكرانيا من مشروع قانون للتمويل الطارئ كان يشمل إسرائيل وأوكرانيا وقضايا داخلية في الولايات المتحدةالأمريكية، وكان قد صرح الرئيس الأوكراني بأنه يواجه معركة شاقة للحفاظ على الدعم للقتال ضد قوات بوتين وسط تزايد الإرهاق داخل المجتمع الدولي تجاه الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، حيث أشتعلت الحرب بين حماس وإسرائيل في السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي، وهناك حديث عن الإحباط الغربي من عدم إحراز تقدم في ساحة المعركة وعدم القدرة على كبح الفساد في أوكرانيا، مع تزايد عزلة الرئيس لأعتقاده أن أوكرانيا لا تزال قادرة على التفوق، وبات من المؤكد اليوم بأنه قد حان الوقت لزيلينسكي للأعتراف بالواقع والتوقف عن الإنكار والتصرف وفقاً لذلك، وهناك من ينفي تراجع الدعم الشعبي الغربي لأوكرانيا، ويبدو أن عزلة زيلنيسكي تتوسع داخلياً أيضاً. فخلال الأسابيع الأخيرة الماضية تزايدت إنتقادات معارضي الرئيس الأوكراني الذين أتهموه بسوء التعامل مع الهجوم المضاد والفشل في القضاء على الفساد والتهرب من الإنتخبات الرئاسية المقرر إجراؤها في أذار/مارس وفقدان النوايا السياسية الدولية الطيبة، وهناك من معارضي زيلينسكي من يعتبرونه معزولاً واستبدادياً بصورة متزايدة، وقد أصبحت شعبية زيلينسكي آخذة في التراجع، والمراقبون يتوقعون بأنه سيدفع ثمن أخطائه بخسارة السلطة في نهاية المطاف، ويعد بطل العالم السابق في الملاكمة للوزن الثقيل الذي يشغل منصب عمدة كييف منذ عام 2014 خصماً سياسياً لزيلينسكي، لكن تعليقاته تعكس الأستياء المتزايد من الرئيس بعد 21 شهراً من الحرب والهجوم المضاد الفاشل، وكان قد صرح أوليسكي أريستوفيتش المستشار السابق لزيلينسكي بأنه يريد تحدي الرئاسة الأوكرانية وإن الوقت حان للتحدث مع الكرملين حول إنهاء الحرب، بينما تعهد الرئيس الأوكراني عدم التفاوض مع روسيا قط، وقال كليتشكو إنه يتفق مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوزني على أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وأثارت تعليقات اللواء زالوزني هذه غضب زيلينسكي الذي نصح كبار ضباطه بالألتزام بالقتال والأبتعاد عن السياسة.